وربما يعكس ذلك ويفيد الدليل التضييق،و لا تعارض بين خطاب الحاكم والمحكوم في التضييق أيضاً،كما إذا قال الله تعالى:(أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبَا) فيحرم الربا حيثما تحقق وأين يتحقق الربا؟
هناك دليل يقول:«لا ربا بين الوالد والولد» فلا يتحقق الربا فيما إذا باع الوالد لولده كيساً من الحنطة بثلاثة أكياس من الحنطة وتصح المعاملة بينهما؛إذ لا ربا بين الوالد و الولد حسب الدليل ولا تعارض بينه وبين الدليل الدال على حرمة الربا.
والحاصل أنَّ أحد الخطابين يفيد التوسعة أوالتضييق في موضوع الخطاب الآخر أو في متعلَّقه،وهذا قسم من الحكومة،والحكومة لا تنحصر فيه،ويعبر عن الخطاب المفید للتوسعة أو التضییق فی موضع الخطاب الآخر بالحاكم ویعبر عن الخطاب الاخر بالمحكوم؛ولذا يقال لا منافاة بين الخطاب الحاكم والخطاب المحكوم،ولا تقاس النسبة بينهما من حيث العموم والخصوص المطلق أو من وجه؛إذ لا تعارض بينهما وإن أحد الخطابين وارد في بيان الحكم على تقدير الموضوع بنحو القضية الحقيقية والخطاب الآخر ينفي هذا التقدير في الخطاب الاول،ويقدم الخطاب الحاكم على الخطاب المحكوم.
قال:إنَّ الشارع إذا قال:«لا صلاة إلّا بطهور وعرفنا أنَّ المراد بالطهارة هي الأعم من الطهارة من الحدث والخبث بقرينة قوله:«ويجزيك الاستنجاء بثلاثه أحجار» و إنّ الشارع أمر بالصلاة واعتبر طهارة بدن المصلي وثوبه كما اعتبر عدم الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه،وكذا اعتبر عدم حمل شيء منها في الصلاة (إذ لا مدخلية لخصوص اللباس،فالصلاة فيها أو مع حمل شيء منها محكومة بالبطلان) و علمنا أنَّ الشارع أمر بالصلاة المقيدة بقيد طهارة ثوب المصلي وبدنه،وكون الملبوس أو المحمول في الصلاة من أجزاء ما يؤكل لحمه،فلا يجري الاستصحاب فيما إذا شك في طهارة الثوب ونجاسته بعد أن كان طاهراً في زمان ونجساً في زمان،واشتبهت الحالة السابقة بالحالة اللاحقة،ولم يعلم المتقدمة والمتأخرة من الحالتين المتعاقبتين،بل تجري قاعدة الطهارة في الثوب أو البدن وتفيد التوسعة في قيدالصلاة المتعلق بها الوجوب،وهو طهارة بدن المصلي و ثوبه وتحكم بطهارةالثوب والبدن،أو يجري استصحاب طهارة البدن والثوب في البدن والثوب المشكوكين المسبوقين بالطهارة،ويقتضي طهارتهما ويعني ذلك أنَّ طهارة الثوب والبدن المأخوذة قيداً في الصلاة من قبل الشارع هي الطهارة الواقعية في بدو الأمر،والخطاب ظاهر فيها إلّا أنَّ الدليل الحاكم نفاها واقتضى طهارة الثوب والبدن عند الشك «كل شيءٍ لك طاهر حتى تعلم أنّه قذر» أو اقتضى حلية الملبوس أو المحمول في الصلاة «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام»
فقيد الصلاة حاصل؛ولكن إذا ظهر بعد حصول القيد بالأصل خلافه،ارتفعت الطهارة الظاهرية من حين كشف الخلاف؛لأنَّ الحكم يرتفع من حين ارتفاع الموضوع،وموضوع الطهارة الظاهرية هو الشك في الطهارة الواقعية،ويوجب ارتفاع الشك في الطهارة الواقعية والعلم بالنجاسة أو العلم بالطهارة الواقعية ارتفاع الطهارة الظاهرية،وليس المراد بكشف الخلاف الكشف بالنسبة إلى الحكم الظاهري؛لأنّ الحكم الظاهري يرتفع من حين ارتفاع موضوعه،بل المراد بكشف الخلاف الكشف عن عدم تطابقه مع الواقع،ولا تصحّ الصلاة في الثوب الذي علمت نجاسته؛إذ ليست له طهارة واقعية ولا طهارة ظاهرية؛ولكن يتحقق الاتيان بالمأمور به و هو الصلاة في الثوب الطاهر والبدن الطاهر بالاتيان بالعمل حال الجهل،ويوجب الاتيان بمتعلق التكليف سقوط التكليف لا محالة.
هذا هو المقرر في الاُصول كما ذكره في الكفاية،ولا يختص ذلك بأصالة الطهارة،كما سيأتي بيانه،بل يعم كل أصل كان مفاد اعتباره جعل القيد وافادة التوسعة،ففي موارد ذلك الأصل يرتفع قيد متعلق التكليف من حين كشف الخلاف لا من الابتداء،ويسقط التكليف قهراً بحصول متعلق التكليف.
وهذا بخلاف الأمارات،كما إذا قامت البينة على طهارة الثوب المسبوق بالنجاسة،سواء طهَّره صاحبه أم غيره،فإنَّ شهادة البيّنة تخبر عن الطهارة الواقعية وتقول هذا الشيیء طاهر واقعي ودليل اعتبارها يعتبر الطهارة الواقعية فيه.