هل ینفعل الماء الجاري (ج 93)

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث (93)

قاعدة التعارض في العموم والخصوص من وجه

ويمكن أن يقال كلامٌ آخر في المقام: إذا فرضنا أنّ هذه الاخبار تدلّ على عدم انفعال الماء الجاري بالبول، فهي تقدم على مفهوم «الماء إذا لم يبلغ كراً ينفعل» لانا ذكرنا قاعدةً اخرىٰ في العامّين أو المطلقين من وجه، فيما إذا كان تقديم أحدهما على الآخر موجباً لالغاء العنوان عن مادة الاجتماع، كما لو ورد: «كلّ طائرٍ يطير بجناحيه فلا بأس ببوله وخرئه» وورد: «ٱغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه»؟ فهاتان الطائفتان متعارضتان بالعموم والخصوص من وجه؛ إذ تشمل رواية: «ٱغسل ثوبك من ابوال ما لا يؤكل لحمه» كلّ حيوانٍ غير مأكول اللحم إذا كان غير طائرٍ فلا تعارض هنا، وتشمل رواية: «كلّ طائرٍ يطير بجناحيه فلا بأس ببوله وخرئه» كلّ طائرٍ مأكول اللحم بلا تعارض، وأما في مادة الاجتماع وهي كلّ طائرٍ غير مأكول اللحم فقوله: «ٱغسل ثوبك…» يدلّ على نجاسة البول، وقوله: «كلّ طائرٍ يطير» يدلّ على طهارته فلا يتساقطان، بل يؤخذ بـ«كلّ طائر…» إذ يلزم من تقديم عموم «ٱغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» إلغاء عنوان «الطائر» وانتفاء خصوصيته في الحكم مع أنّ ظاهر الخطاب هو مدخلية عنوان الطائر.

والأمر كذلك في المقام، إذ يلزم من تقديم «الماء إذا لم يبلغ كراً ينفعل» على «الماء الجاري لا ينفعل» في الماء الجاري القليل، إلغاء عنوان «الماء الجاري» واسقاط دوره في الحكم فيصير الماء الجاري كالماء الراكد، وأما قوله «الماء الجاري لا ينفعل بالبول» فلا يوجب تقديمه إلغاء عنوان «الماء الجاري» بل تبقى خصوصيته على حالها، فلا ينفعل الماء الجاري القليل كما ينفعل كلّ ماءٍ قليلٍ غير جار. فللقليل مدخليةٌ في الانفعال، وهذا العنوان لا يلغى، بل يقيد انفعال الماء القليل (وهو الذي لم يبلغ قدر كرّ) بعدم جريان الماء، وهذا هو العلاج في تعارض الدليلين كما مرّ.

وان أغمضنا العين عما ذكرنا وقلنا هما متعارضان بالعموم والخصوص من وجهٍ فيتساقطان، أي يتساقط اطلاق كلٍّ من الروايتين، رجعنا إلى عموم قوله (علیه السلام): «الماء يطهّر ولا يطهّر» وقد قلنا باعتبار أحد أسناده وهو رواية‌ السكوني وذكرنا أنّ «لا يطهّر» كنايةٌ عن عدم الانفعال، فالمرجع هو التمسك بعموم هذه الرواية، والحاصل أنّ الماء الجاري لا ينفعل.

فعمدة الاشكال هي أنّ الرواية لا ظهور لها ولا دليل فيها على أنّ محل السؤال في الرواية هو حكم البول حتى يحكم بعدم دلالتها على اعتصام الماء الجاري.

استدلال المحقق الهمداني(ره) بصحيحة محمد بن مسلمٍ على اعتصام الجاري

استدل المحقق الهمداني(ره) على اعتصام الماء الجاري بصحيحة محمد بن مسلم: «محمد بن الحسن باسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن السندي بن محمد» وهو معتبرٌ ثقةٌ «عن العلاء عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن الثوب يصيبه البول؟ قال: ٱغسله في المركن مرتين فإن غسلته في ماءٍ جارٍ فمرةً واحدة».

قال: إذ لو كانت ملاقاة الماء للنجاسة سبباً لانفعال الماء الجاري القليل لبيّنه الامام (علیه السلام) لانه من وظائفه (علیه السلام)، فكان على ‌الامام (علیه السلام) بعد الحكم بكفاية غسل الثوب مرةً ولو بالجاري القليل، التنبيه على وجوب الاجتناب عنه، لملاقاته الثوب المتنجس، فعدم بيان الامام (علیه السلام) لوجوب الاجتناب عن الماء دليلٌ على عدم انفعال الماء الجاري مطلقاً، سواءٌ كان قليلاً أو كثيراً.

ثمّ قال: «هذا إذا لم نقل باعتبار ورود الماء القليل في تطهير الثوب النجس، والا فالصحيحة الأخيرة بإطلاقها مثبتةٌ للمطلوب».

بيان ذلك: قال: هذا إذا لم نقل باعتبار ورود الماء على ‌المغسول في الغسل بالماء القليل، إي إذا قيل بعدم اشتراط صبّ الماء القليل على المتنجس المغسول. أما إذا كان الورود معتبراً حتى في موارد الغسل بالماء القليل الجاري فالاطلاق يكون اطلاقاً لفظياً[1] لا اطلاقاً مقامياً؛ إذ لو كان ورود الماء القليل معتبراً على الاطلاق لوجب على الامام (علیه السلام) تقييد الجاري بالكثير، أي وجب عليه أن يقول: «إن غسلته في الجاري الكثير فمرة» بدلاً من قوله: «ان غسلته في ماءٍ جارٍ فمرة» لأنّ ورود الماء الجاري على النجس غير ممكنٍ والماء الجاري يكون موروداً دائماً، ومن المعلوم أنّ الثوب المتنجس الوارد في الماء لا يطهر إذا كانً قليلاً، بل ينفعل الماء القليل بملاقاة المتنجس.

والحاصل أنّ الاطلاق مقامي إذا لم نقل باعتبار ورود الماء القليل في تطهير المتنجس مطلقاً، وإن قلنا باعتبار الورود على الاطلاق وجب على الامام تقييد الجاري بالكثير بأن يقول: «ان غسلته في الماء الجاري الكثير فمرة» فظهر من عدم التقييد عدم انفعال الماء الجاري. والحمد لله رب العالمین.


[1]. إذا كان مجرى الاطلاق هو اللفظ سمي الاطلاق بالاطلاق اللفظي وان لم يكن مجرى الاطلاق هو اللفظ بل كان مجراه هو قصد المولى وغرضه سمي بالاطلاق المقامي كما لو أصدر المولى حكماً وطرأ الشك في مدخلية شيء في تحقق غرض المولىٰ أو في مانعيته عن تحقق الغرض واحرز ان المولى كان في مقام بيان كل ما كان دخيلا في غرضه حين صدور الحكم فان المرجع حينئذ هو الاستناد إلى الإطلاق المقامي لنفي المشكوك.