بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس (97)
أحكام الماء الجاري
مسألة 1: «الجاري على الارض من غير مادةٍ نابعةٍ أو راشحةٍ إذا لم يكن كراً ينجس بالملاقاة، نعم، إذا كان جارياً من الاعلى إلى الاسفل لا ينجس أعلاه بملاقاة الاسفل للنجاسة وإن كان قليلاً».
تنجّس الجاري الفاقد للمادة وغير الكر من الماء
ذهب السيد(ره) في المسألة الأولى لهذا الفصل من العروة إلى أنّ المستفاد من الادلة هو حكم الشارع باعتصام الماء الجاري الواجد لمادةٍ في باطن الارض راشحةً كانت[1] أو غير راشحة.
وهذه الصورة مندرجةٌ تحت صحيحة محمد بن اسماعيل بن بزيعٍ التي يستفاد منها اعتصام الماء بواسطة المادة، وقد ذكرنا عدم مدخلية الجريان في هذا الاعتصام، بل يشترط فيه وجود المادة، واتصال الماء بها، فيستنتج منهما أنّ الماء الفاقد للمادة الباطنية الغائرة أو الراشحة كالماء المنهدر من ذوبان الثلوج وهطول الأمطار وهو الماء الذي له مادةٌ فوق الارض، إذا بلغ قدر الكر قبل ملاقاته للنجس شمله دليل اعتصام الكر: «الماء إذا بلغ قدر كرٍّ لا ينجسه شيء» وإن لم يبلغ حد الكر دخل تحت مفهوم: «الماء إذا لم يكن كراً ينفعل» فهذا المفهوم يشمل الماء الناتج عن ذوبان الثلوج وهطول الامطار فينفعل غير الكرّ منه بلا تردد.
عدم نجاسة الاعلى بنجاسة الاسفل
ثم يستثني ويقول: «نعم، إذا كان جارياً من الاعلى إلى الاسفل» إي إذا كان الماء الفاقد للمادة الباطنية أقلّ من الكر، وسال من العالي إلى السافل «لا ينجس أعلاه بملاقاة الاسفل للنجاسة وإن كان قليلاً».
وهذه المسألة واضحةٌ بالنسبة لبعض الموارد والفروض، كما في صبّ الماء القليل من الابريق على اليد القذرة أو علىٰ شيءٍ نجسٍ في اليد أو على الأرض، فالماء الملاقي للنجس ينفعل لا محالة، ولكن لا يحكم بتنجّس ما في الابريق بملاقاته للنجس السافل. هذا الكلام مسلّمٌ في الجملة إذ لا معنى للتطهير بالماء القليل بدونه. إنما الكلام في ملاك المسألة. ومتىٰ لا ينفعل بعض الماء القليل بملاقاة بعضه الآخر للنجاسة؟
يظهر من عبارة صاحب العروة(ره) إنّ المناط هو الجريان من الأعلىٰ إلى الأسفل، فالجاري القليل السائل من الأعلىٰ إلى الأسفل لا يتنجّس أعلاه كما مرّ في مثال الإبريق.
الملاك هو الجريان الدفعي في محلّ الكلام
إنّ الصحيح ـ كما سنقول ـ هو عدم مدخلية الجريان من الأعلى إلى الاسفل، وانما المدار على خروج الماء بالقوة والدفع، بلا فرقٍ بين العالي وغيره، فلا ينفعل الدافع بملاقاته للمدفوع وإن كان الجريان من الاسفل إلى الاعلى كالنافورة، فإذا كان ماء النافورة قليلاً ومندفعاً ولاقى الماء الخارج منها نجساً لم يتنجس الماء المجمّع في الخزان، ولا الماء الجاري في انبوبه الذي يندفع منه الماء إلى الخارج.
فينبغي أن يقال إنّ الميزان هو الدفع ومن هنا التزم بعض المحشين بأنّه «لا يكفي مجرد الجريان من الأعلى إلى الاسفل، بل لابد من وجود الدفع والقوة في الماء» كي لا يتنجس الباقي، وماء الابريق من هذا القبيل إذ يخرج ماؤه بالدفع ويراق على اليد القذرة أو النجس، والدفع يمنع عن سراية نجاسة الملاقي إلى الماء الباقي في الابريق أو غير الملاقي من الماء.
ومحل الكلام يماثل ما ذكرناه في باب المضاف من انفعاله بالملاقاة ولو كان أكراراً. فقد قال البعض هناك إنّ الدفع يمنع من انفعال الجزء الدافع بملاقاته للجزء المدفوع الملاقي للنجس وإن كان المضاف قليلاً، كما أنّ الجلاب الباقي في الابريق لا يتنجس بملاقاته للجلاب المراق على يد الكافر.
لكن ما الدليل على تنجس جزءٍ من الماء وعدم تنجس الجزء الآخر منه؟
فلم لا يتنجس كلّ الماء وإن كان الجريان بالدفع؟ فإنّ مفهوم الروايات الدالة على أنّ «الماء إذا بلغ قدر كرٍ لا ينجسه شيء» هو انفعال دون الكر من الماء والماء الدافع أقلّ من الكر وقد لاقى نجساً. فمفهوم أخبار الكر يقتضي انفعاله.
تقييم الدليل الدال على عدم النجاسة في صورة جريان الماء بالدفع
قالوا في بعض كلماتهم إنّ الوجه في عدم النجاسة هو أنّ العرف يرى الماء متعدداً، فالجزء الملاقي للنجس يغاير الجزء الدافع عرفاً وإن لم يحظ الدافع بالعلو؛ لأنّ الجزء الدافع لم يلاق نجساً، وهذه الاثنينية تمنع من سراية نجاسة أحدهما إلى الآخر. والحمد لله رب العالمين.
[1]. الراشحة هي بمعنى الترشح والتقاطر وعدم الفوران وتقابلها الفائرة وهي السائل الواجد للفوران. قال الفراهيدي في كتاب العين: «والراشح…».