بسم الله الرحمن الرحيم
البحث الثامن والسّتّون
وقد ٱستدل علی عدم الفرق بین السّرایة الانتشاریة وغیر الانتشاریة بوجوهٍ:
الوجه الاول للاستدلال: قالوا:
إنّ السّرایة غیر الانتشاریة هي في الواقع وفي الحقیقة، سرایةٌ ٱنتشاریة؛ لأنّ أوصاف عین النجس موجودةٌ في الماء في کلتا الصّورتین الأولی والثانیة، ولا یعقل ٱنتقال العرض من معروضه إلى معروضٍ آخر. ففي فرض وقوع المیتة ٱنتشرت الاجزاء الصغیرة من المیتة في الماء الاول، والأجزاء الصّغیرة هي التي تحمل الرائحة الخبیثة، ولمّا نزحنا من الماء الاول وصببنا علی الماء الثاني سرت الأجزاء الخبیثة في الماء الثاني وغیّرته. فإذاً لا فرق بینهما. فلیست السرایة هنا غیر ٱنتشاریةٍ بهذا الدّلیل والقانون الدال علی أنّ «العرض لا ینتقل من معروضٍ إلی معروضٍ آخر» بل السرایة انتشاریةٌ والمفروضٌ هو شمول الادلة لها.
الجواب: لا یتم هذا الاستدلال لوجهین:
الوجه الاول للجواب: إنّ تغیّر الماء بأوصاف النجاسة لا یستلزم أن تکون السّرایة انتشاریةً ولو بالدّقة العقلیة ولا جدویٰ فیما نقلناه عن المستدل من أنّ «العرض لا یمکن انتقاله من معروضٍ إلی معروضٍ آخر» إذ مرّ أنّ هناك سرایةً بالخاصّیة والتأثیر، وهي ترکّب شيءٍ ثالثٍ من شیئین أو جزأین لأنّ خاصّیة الجزأین تقتضي ذلك. فإذا ٱکتسب الماء الرائحة النتنة، فلیس معناه أنّ النتانة ٱنتقلت من المیتة وطرأت علی الماء حتی یرد علیه بأنّ العرض لا یمکن ٱنتقاله من معروضٍ إلى معروضٍ آخر. هذه هي خاصّیة الماء، ومن خاصّیة الأجزاء الرّطوبیة هي ٱکتساب الرائحة النتنة حین ملاقاتها للشيء النتن، ولیس معنی ذلك ٱنتقال العرض من معروضٍ إلى معروضٍ آخر.
کما لو وضع القدر علی النار وصبّ فیه مقدارٌ من الماء، فهذا لیس معناه أنّ حرارة النار ٱنفکّت عنها وٱنتقلت إلى الماء، بل للماء خاصّیةٌ موجبةٌ لحدوث الحرارة فیه، والنار هي السّبب والمؤثر في ذلك.
والمقام من هذا القبیل. فوقوع المیتة في الماء واکتسابه الرائحة من باب التأثیر بالخاصّیة. فإنّ للماء خاصّیةً إذا وقعت فیه المیتة تأثّر بها وٱکتسب رائحتها. فهي الموجدة ولا یصحّ أن یقال إنّ الرائحة ٱنتقلت إلى الماء. فالتأثیر بالخاصّیة موجودٌ في الصورة الثانیة. ففي الصورة الثانیة نزحنا من الماء الأول وصببنا علی الماء الثاني، والماء الاول أوجد الرائحة في الماء الثاني. فهو موجدٌ من قبیل التأثیر بالخاصّیة ولا علاقة له بمسألة ٱمتناع ٱنتقال العرض من معروضٍ إلى معروضٍ آخر.
فعلی هذا الاساس، إنّ المستفاد من الأدلة هو تنجّس الماء إذا وقعت فیه المیتة وتغیّر بها، وهذه الادلة لا تشمل الماء الذي لم تقع فیه المیتة، بل تختص بما إذا وقعت المیتة في الماء وتغیّر بها. فالسّرایة فیما نحن فیه غیر ٱنتشاریة، وهذا معقولٌ لا یرد علیه إشکالٌ عقلي، وإن کان التأثیر من باب التأثیر بالخاصّیة، والشاهد علی ذلك ـ کما سیذکره صاحب العروة ـ هو أنه إذا ألقیت عین النجاسة في الماء وتغیّر الماء لا بأوصاف النجاسة وسنخها تنجّس الماء، کما لو تغیّرت رائحة الماء بغیر رائحة عین النجاسة إي ٱکتسب الماء رائحةً غیر رائحة عین النجاسة أو تغیّر طعم الماء بغیر طعم النجاسة، ولکنّ عین النجس کانت واسطةً في التغیّر، فیتنجّس الماء بتغیّر لونه أو طعمه أو ریحه بواسطة وقوع النجاسة فیه، ویتمّ ذلك بالتأثیر بالخاصّیة لا بمسألة ٱنتقال العرض، وإلّا لزم أن تکون رائحة الماء أو طعم الماء من سنخ رائحة عین النجس وطعم عین النجس، مع أنّ إطلاق الروایات یشمل فیما إذا تغیّر لون الماء أو ریحه أو طعمه بوقوع عین النجس وإن لم یکن ذاك اللّون أو الریح أو الطعم من سنخ أوصاف عین النجس. سنقول لا ضیر في ذلك، وهذا شاهدٌ علی أنّ التأثیر هنا من باب التأثیر بالخاصّیة والسّرایة علی نحو التأثیر بالخاصّیة أمرٌ معقولٌ ویدخل في مدلول الأخبار ولا إشکال فیه.
فإذا کان التأثیر بالخاصّیة أمراً معقولاً ورد الاشکال؛
وهو أنّ مورد الأخبار یصدق فیما إذا القیت المیتة في الماء وتغیّر الماء بها، فمورد الاخبار یشمل الماء الاول ولا یشمل الماء الثاني؛ إذ لا دلیل علی أنّ تغیّر الماء الثاني موجبٌ للتنجّس؛ لأنّ التغیّر الموجب للتنجّس هو تغیّر الماء الملاقي لعین النجس، والماء الثاني لم یلاق عین النجس، فالإشکال علی حاله. وعلی هذا الاساس لا وجه لما ٱستدل به علی رفع الاشکال.
الوجه الثاني للجواب: علی تقدیر التسلیم والتنازل درجة، نفرض أنّ التأثیر بالخاصّیة لابدّ أن یتحقّق بالانتشار دائماً وأنه لا یمکن ٱنتقال العرض من معروضٍ إلى معروضٍ آخر عقلاً، والعقل لا یفرّق بین الماء الاول والماء الثاني المتغیّر به، إي لا فرق عقلاً بین الماء الاول الملقاة فیه المیتة، والماء الثاني غیر الملقاة فیه المیتة… ولماذا لا یکون فرقٌ بینهما؟ لانه لا یمکن ٱنتقال العرض من معروضٍ إلى معروضٍ آخر وإلّا لزم خلوّ العرض من المعروض في آن الانتقال، وهذا أمرٌ مستحیل، وٱفرض أنّ العقل قال بانتشار أجزاء المیتة في الماء الاول کبولها وٱنتشار أجزاء المیتة في الماء الثاني، لٰکن لا یکون ذلك ملاکاً للحکم الشّرعي؛ لأنّ الحاکم هنا هو العرف، والعرف یقول إنّ الماء الاول تغیّر بالمیتة التي القیت فیه، والماء الثاني تغیّر بالماء الاوّل، ولا یقول العرف إنّ المیتة غیّرته، ومدلول الروایات هو ٱستناد التغیّر بالمیتة عرفاً لا عقلاً، ولا بالدّقة العقلیة من دون فهم العرف. فالعقل یدرك مسألة ٱمتناع ٱنتقال العرض من معروضٍ إلى معروضٍ آخر، ولکنّ أهل العرف لا یدركون ذلك کما بیّناه سابقاً، ومهما نقول للعرف بذلك، ویقول: لیس الأمر کذلك، أین الدّم في هذا الثّوب؟ غسلته عشر مرّاتٍ بالصّابون، والقماش الأبیض فیه بقعةٌ، ومهما تکرّر للعرف وتقول: هذه البقعة دمٌ ولیست ببقعةٍ إذ لا یمکن عروض اللّون علی القماش، فهذا اللّون هو لون الدّم والأجزاء الدّمویة الصغیرة فیه، ولا یمکن ٱنتقال العرض من معروضٍ إلى معروضٍ آخر، لا یفهم العرف ذلك.
فبناءً علی هٰذین الوجهین لا یتم الاستدلال علی عدم الفرق بین صورتي السرایة، ومن تأمّل في الاستدلال الثاني تفطّن إلی عدم صحّته أیضاً.