معنىٰ الطَّهُور (ج 8)

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الثامن

المعنی المتعین للطهور في الآیة المباركة (وأنزلنا من السّماء ماءً طهوراً)

انتهى الكلام في معنی الطهور في الآیة المباركة: (وأنزلنا من السّماء ماءً طهوراً) قیل بأنّ الطهور بمعنی «الطاهر في نفسه المطهر لغیره» وقیل بأنّ الطهور مبالغةٌ في الطاهر. الطهور معناه شدة الطهر وغایته، وما بلغ طهارته حد الكمال والكثرة.

أشرنا إلی معنی آخر وهو أنّ الطهور معناه «ما یتطهر به» كـ: وقود[1] بمعنی «ما یتوقد به» ورسول بمعنی «ما یرسل به». فالمتعین في الآیة المباركة من هذه المعاني الثلاثة هو المعنی الأخیر، أي ما یتطهر به، والوجه في ذلك أنّ الطهور بمعنی المبالغة في الطهارة لا تلائمه الآیة المباركة: (وأنزلنا من السّماء ماءً طهوراً) حیث إنّ هذه الآیة المباركة في مقام بیان التفضّل والامتنان علی العباد لأنّ الله أنزل لهم ماءً طهوراً من السماء. لا یكون الطهور بمعنی الطاهر لأنّ كلّ شيءٍ طاهرٍ یحظی بالطهارة إلّا ما شذّ وندر منه، وهو الأشیاء التي حكم علیها بالنجاسة. وقلنا إنّ أخذ الطهور بمعنی المبالغة في الطهارة وشدة الطّهر فلا یناسبه مقام الآیة المباركة؛ لأنّ الطهور وصفٌ للتراب أیضاً، في كلام آخر «إنّ الله جعل الأرض أو جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً» فلا معنی لشدة الطهر في التراب. إن اخذ الطهور بمعنی شدة الطّهر، فالتراب لیس بشدید الطّهر، بل هو كسائر الاشیاء نحو الخشب والثوب وغیرهما، إضافةً الی أنّ هنالك أشیاء لا تتنجس أبداً كبدن الحیوان علی ما نذكر وبواطن الانسان علی ما ذكروا، وهو مسلّمٌ ورغم ذلك لا یطلق الطهور علی بواطن الانسان فیعلم منه أنّ الطهور لیس بمعنی شدة الطهر.

الدلیل علیٰ عدم أخذ الطهور بمعنی الطاهر

أنتم إذا تريدون تصلون إلى الطهور لیس بمعنی الطاهر فلاحظوا هذه الصحیحة للامام (علیه السلام) الواردة في قوم بني اسرائیل: «كان بنو اسرائیل إذا أصاب أحدهم قطرة بول، قرّضوا لحومهم بالمقاریض ـ وقد وسّع الله علیكم ـ بأوسع ما بین السماء والارض وجعل لكم الماء طهورا.»

إن كان الطهور بمعنی الطاهر فلا یلائمه تقریض اللحوم في بني اسرائیل: لأنّ الله افتتن بني اسرائیل بتقریض لحومهم عند إصابة البول أبدانهم ثمّ وسع الله وجعل الماء مما یتطهر به أي جعل الله الماء سائلاً یتطهر به. فــ«ما یتطهر به» امرٌ اعتباري.[2] الطهارة أمرٌ اعتباري لأنّ غسل الموضع، بالماء، بعد اصابة البول به یزیل عین البول والطهارة بمعنی ازالة العین خارجاً.

وامر تكویني[3] ولا یختص بأمة رسول الله (صلی الله علیه وآله). فالمراد من الطهور هو الطهور الحكمي، والمحكوم شرعاً بأنّ ما اصابه البول صار طاهراً. فجعل الله الماء لأمة محمدٍ (صلی الله علیه وآله) طهوراً. الطهور هو طهورٌ اعتباريٌ شرعيٌ باعتبار الشارع. فیتطهر موضع البول بالغسل. فمعنی الطهور هو ما یتطهر به ولا معنی لشدة الطهر. وكذا الروایات الواردة في ماء البحر كقوله (علیه السلام): «ماء البحر طهور»[4]. فالطهور هنا لیس بمعنی طهارة ماء البحر وعدم نجاسته. «ماء البحر طهور» أي ماء البحر مطهرٌ كسائر المیاه. فكما تحصل الطهارة بسائر المیاه كذلك تحصل الطهارة بماء البحر لأنّ بعض العامة ناقشوا في مطهریة ماء البحر وكانّ الامام (علیه السلام) ردع هذا الاحتمال في تلك الروایات. فبهذا التفصیل للكلام نستنتج بأنّ الطهور هو بمعنی ما یتطهر به.

طهوریة الماء تستلزم كونه طاهراً

أما ما قیل بأنّ «الماء طاهرٌ لنفسه مطهرٌ لغیره» فقلنا إنّ ما یتطهر به لو كان ماءً فلابد أن یكون طاهراً بحكم الارتكاز حتی یطهّر غیره لانه سائلٌ والمناسبة تقتضي ذلك. فإن لم یكن الماء بنفسه طاهراً فلا یطهّر غیره. فطهوریة الماء تستلزم ذلك. فنعني بطهوریة الماء، كونه مما یتطهر به. فالماء مطهرٌ وطاهرٌ بالارتكاز. فإذا كان شيءٌ مما یتطهر به فلابد ان یكون طاهراً بالاستلزام. والملازمة تختص بالماء فقط ولا تشمل التراب. ففي التراب إشكالٌ لأنه ورد في تعفیر[5] الاناء المتنجّس بولوغ الكلب قوله «اغسله بالتراب اوّل مرة، ثمّ بالماء». إذن ما معنی الغسل بالماء إذا أخذنا الطهور في التراب بمعنی: «الطاهر في نفسه المطهر لغیره»؟ فالطهور في التراب لیس بمعنی «ما یتطهر به» ولا یصدق هذا المعنی علی التراب والارض في قوله: «إنّ الله جعل الارض طهوراً» أو «التراب طهوراً كما جعل الماء طهورا»[6].

فطهارة الماء تفهم بالاستلزام العرفي. أي الماء یطهّر إذا كان طاهراً، وهذه الطهارة أمرٌ اعتباري. فإذا كان الماء مما یتطهر به، فالمناسبة تقتضي بأن یكون نفسه طاهراً. هكذا في السوائل، وأما في نحو التراب فلا نعتبره ولا نستفید الملازمة من وصف التراب بالطهور ولا نلتزم بأنّه طاهرٌ في نفسه مطهرٌ لغیره.


[1]. همان ماده و جسمی است که موجب سوزاندن می‌شود.

[2]. الامور والمفاهیم التی یتصورها الانسان إما متأصلة واما غیر متأصلة

المفاهیم المتأصلة: هي ما تتحقق عینها في خارج الذهن وتقع معالیل لعلل خاصة تكوینیة ولا تتحقق بمجرد انشاء لفظة او قصد وارادة بل توجد بوجود عللها الخاصة كجمیع الموجودات التي نشاهدها في عالم الخارج ویطلق علیها المفاهیم الحقیقیة والواقعیة وهي المراد في علم اصول الفقه عند اطلاق المفهوم الحقیقي.

المفاهیم غیر المتأصلة: وهي علی قسمین: الف: الاعتباریة (الانشائیة) ب: الانتزاعیة

الف: المفاهیم الاعتباریة: الاعتبار مصطلح یطلق علیٰ معان مختلفة في الفلسفة والمنطق واصول الفقه

1- المفاهیم الاعتباریة هي مفاهیم غیر ما هویة خلافاً للمفاهیم الحقیقیة ولیس لها قابلیة الوجود في الذهن وفي الخارج معاً وتسمیٰ بالمعقولات الثانویة. والمعقولات الثانویة تنقسم إلی قسمین:

الف: المعقولات الثانویة الفلسفیة: هی مفاهیم تكون حیثیة مصداقها حیثیة الوجود في الخارج ومنشأ الآثار الخارجیة كالوحدة والفعلیة والوجوب وغیر ذلك من الأمور التي لا توجد بعینها في الذهن.

ب: المعقولات الثانویة المنطقیة: هي مفاهیم تختلف عن ماهیتها من حیث ان حیثیة مصداقها الوجود في الذهن لذلك من المستحیل ان تتحقق في الخارج كمفهوم القضیة والحجیة والمعرّف.

2- الاعتبار في مقابل الاصالة: والاعتبار امر یتم ایجاده ومنشأیته للاثار بالعرض، والاصیل یتم تحققه ومنشأیته للآثار بالذات.

3- الاعتباري هو ما لیس له وجود منحاز في نفسه بل له وجود ربطي ووجود في الغیر كجمیع النسب والروابط.

4- المفاهیم التي تحمل علی موضوعات خاصة للوصول الی غایات ومقاصد عملیة في الحیاة الانسانیة نحو مفهوم الرأس. فاذا اطلق علی رأس انسان او حیوان فیكون مفهوماً حقیقیاً اطلق علی مصداق حقیقي واذا اطلق علی انسان بنفسه كامارة علی منصبه او علامة علی سیطرته علی الاخرین كسیطرة الرأس علی البدن فیعتبر من المفاهیم الاعتباریة ویقال له الانشائي ایضاً.

فالمناسبة هي المصححة للاستعمال والمصححة لهذه النسبة هنا.

ملاحظتان حول الأمور الاعتباریة: الأولیٰ: المعتبر في الأمور الاعتباریة اما الشرع او العرف والعقل. ففي بعض الموارد لا یكون العرف مخالفاً للشرع وفي بعض الموارد یتعارضان في الرأي.

كما ان الشرع یعتبر ملكیة الابن الاكبر لجملة من اموال ابیه المیت كالسیف وغلافه والخاتم والثیاب التي لبسها وكملكیة الفقراء والسادات للخمس والزكاة. وما یعتبره الشرع والعرف والعقل هو ملكیة الانسان لماله.

الثانیة: سبب الجعل ومنشأ الاعتبار اما یكون امراً تكوینیاً كموت الانسان الذي هو منشأ لملكیة الورثة بالنسبة إلی اموال المیت والموت امر تكویني، واما یكون فعلا من افعال الانسان الاختیاریة كبیع المعاطاة واصطیاد الوحوش. فهما فعلان اختیاریان ومنشآن لانتزاع الملكیة وإما یكون غیر اختیاری كالقتل من دون عمد. فهو فعل غیر اختیاری موجب لثبوت الدیة واما یكون صیغة من صیغ الافعال كصیغة الامر والنهی وسائر الالفاظ التی تنشئ الأحكام التكلیفیة والوضعیة وإما یكون منشأه القصد والارادة كما ان الشارع أباح اشیاءً للمكلفین وكاباحة التصرف في اموال الاخرین برضاهم.

ب: المفاهیم الانتزاعیة: وهي مأخوذه من الانتزاع ویكون وجوده بانتزاعه عن منشأ الانتزاع الموجود إما في عالم العین كالعلمیة المنتزعة من العلة والمعلول الخارجیین او كالفوقیة والتحتیة والبنوة. او الموجود في عالم الاعتبار كالعقد الذي یكون سبباً للزوجیة والملكیة اذ حیث كانت الزوجیة والملكیة اعتباریتین كان سببهما اعتباریاً لا محالة.

الانتزاع في الفلسفة هو اداء عقلي خاص یتم به استحصال المفهوم الكلي من الجهة المقومة له وهو ادراك امور مماثلة والقیاس بینها. فالمفاهیم الذاتیة تنتزع من مقام الذات والعرضیة تنتزع منها بلحاظ طروء العرض علیها علی اختلاف الاعراض في كونها خارجیة واعتباریة والمفاهیم الاضافیة تنتزع من نحو نسبة بین الذات وغیرها كالفوقیة والبنوة والعلیة ونحوها.

[3] . الامر التكوینیي الالهي هو ما اوجده الله تعالی ولا دور للعباد في تحققه.

[4] . لا یوجد نص هذه العبارة في الكتب الروائیة المعتبرة للشیعة ولكن یوجد فیها روایات بهذا المضمون منها في وسائل الشیعة باب ان ماء البحر طاهر مطهر وكذا ماء البئر وماء الثلج حیث توجد فیه اربع روایات منقولة بهذا المضمون: منها «محمد بن یعقوب عن علی بن ابراهیم عن محمد بن عیسی عن یونس بن عبدالرحمن عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: سالته عن ماء البحر أطهور هو؟ قال: نعم (ج 1، ص 136).

[5] . التعفیر: تفعیل من العفر وهو: تطهیر ذلك الاناء او نحوه بالعفر: اي التراب الذی بیاضه لیس بخالص وذلك في نجاسة المغلظ؛ عبدالرحمن بن محمود، معجم المصطلحات والالفاظ الفقهیة (ج 1، ص 474)

[6] . محمد بن علي بن الحسین بن بابویه (رض) باسانیده عن محمد بن حمران وجمیل بن دراج عن أبي عبدالله (علیه السلام) في حدیث قال ان الله جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا؛ حرالعاملی، وسائل الشیعة (قم، موسسة آل البیت (علیهم السلام) ج 1، ت 1409 ق) ج 1، ص 133.

للمزید من الروایات بهذه العبارة راجعوا: وسائل الشیعة، الباب 23 من ابواب التیمم، ج 3، ص 385.