مطهَّريَّة الماء (ج 10)

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث العاشر

إطلاق الآیات والروایات بالنسبة لمطهریة الماء

الكلام في هذا المقام یدور حول مطهریة الماء بالنسبة إلی النجاسة الحكمیة[1] وإزالة هذه النجاسة بالماء كما لو لاقیٰ جسم انسانٍ رطبٍ، جسم كلبٍ أو لاقیٰ جسم كلب رطبٍ، جسم انسانٍ بحیث اصابته رطوبة الكلب وكما لو صافح مسلمٌ كافراً مشركاً وكانت ید المسلم رطبةً وقد تجف الرطوبة بعد حین؛ لكنّ الشارع اعتبر النجاسة علی الجسم الملاقي (لجسم الكافر المشرك أو الكلب). فهل یصح الاستدلال بالآیة المباركة (وأنزلنا من السّماء ماءً طهوراً)[2] علی أنّ الماء بجمیع اقسامه مطهرٌ من الحدث والخبث أم لا؟

فهذا الماء كیف وبأيّ طریقٍ یزیل الخبث ویطهّره؟ مثلاً یجب صبّ الماء علی النجس لو كان قلیلاً ویكفي غمسه في الماء لو كان كراً. فندرس هذا الموضوع بإذن الله تعالیٰ… ولا یصح التمسّك بعموم الآیات والروایات عند الشك في كیفیة التطهیر لبعض الموارد؛ لأنّ ما طرأ الشك عليه هو كیفیة التطهیر لا مطهریة ماءٍ دون ماء.

كیفیة التطهیر بالماء

هل الماء بجمیع اقسامه مطهرٌ إذا كان استعماله موافقاً لكیفیة التطهیر المستفادة من سائر الأدلة أم أنّ المطهریة تختص ببعض المیاه دون بعض؟ مثلاً كیفیة التطهیر بماء المطر هل تعمّ سائر المیاه أم لا؟

إذا طرأ الشك في أنّ حكم المطهریة یختص ببعض المیاه، أو یشمل كلّ المیاه فهو یرجع إلی ما ترشدنا إليه الآیات والروایات. فإن قلنا إنّ المستفاد من الآیات والروایات هو طهوریة كلّ ماءٍ فنحكم حینئذٍ بأنّ حكم المطهریة لا یختص بماء دون ماء، بل كل ماءٍ طهور.

فالمقصود هنا هو اثبات عمومٍ یدلّ علی أنّ كلّ ماءٍ طهورٍ شرعي أي تحصل به الطهارة الاعتباریة. أمّا الطهور بالمعنی التكویني فلا ینفع في اثبات طهوریة الماء فلابدّ من اثبات أنّ كلّ ماءٍ طهورٍ شرعي، وهو طهورٌ اعتباري یدلّ علی أنّ كلّ ماءٍ یزیل الحدث أو الخبث.

الاشكال في دلالة الآیات المذكورة علی المطهریة من الخبث والحدث، والنقاش هنا هو أنّ أصل الطهور في الآیة الأولیٰ (وأنزلنا من السّماء ماءً طهوراً) راجعٌ إلی الطهور التكویني[3]، ولا علاقه له بالطهور الاعتباري[4]. لأنّا لا نعلم أنّ الشارع في زمان نزول الآیة الشریفة اعتبر رفع الحدث أو اعتبر النجاسة علی المتنجسات أم لا، ومن الواضح أنّ نزول الاحكام وتشریعها كان تدریجیاً. إنّ الآیة الشریفة (وأنزلنا من السّماء ماءً طهوراً) تدلّ علی أنّ الماء طهورٌ تكویناً أي مزیلٌ للأوساخ والأخباث، ولا علاقة له بالأمر الاعتباري الذي هو محل كلامنا، والأمر التكویني لیس محل الكلام. وغایة ما یقال هو أنّ الآیة الشریفة لا تدل علی مطهریة الماء من الحدث ولا من الخبث.

وأما عند نزول الآیة الثانیة (و ينزّل عليکم من السّماء ماءً ليطهّرکم به)[5] فرفع الحدث كان مشرّعاً قبله؛ لأنّ الآیة نزلت في غزوة بدر، حین لم یجد الاصحاب ماءً لیغتسلوا به من الجنابة وقد تيمّموا وأصابهم الحزن بما أصبحوا مجنبین علی غیر ماء، والمشركون كانوا في سعة، وقال بعضهم في نفوسهم: تزعمون أنكم أولیاء الله وفیكم رسوله وقد غلبكم المشركون علی الماء وانتم تصلّون مجنبین، فأنزل الله المطر علیهم تفضلاً منه تعالی. فتبیّن منه أنّ الآیة الشریفة الثانیة تدل علی المطهریة من الحدث ورفع الحدث كان مشرّعاً، عند نزول الآیة، ولكن هل الماء مطهرٌ من الخبث أیضاً؟ ـ أي المطهریة الشرعیة[6] لا المطهریة العرفیة[7] ـ فعند نزول الآیة الشریفة الثانیة كان الماء مطهرٌ من الحدث بلا شكٍ، وأمّا رفع الخبث هل كان معتبراً ومشرّعاً لیكون الماء مطهراً منه أم لا؟ وكأنّ الآیة الثانیة لا دلالة لها علیه. بناءً علی هذا؛ فلا دلالة للآیة الأولیٰ علیٰ كون الماء مطهراً من الحدث والخبث ولا دلالة للآیة الثانیة علی كون الماء مطهراً من الخبث الاعتباري، وانما تدل علی المطهریة من الحدث الاعتباري.

فتلخص أنّ الآیة الشریفة الأولیٰ (وأنزلنا من السّماء ماءً طهوراً) لا دلالة لها علی المطهریة من الحدث والخبث، والآیة الثانیة (و ينزّل عليکم من السّماء ماءً ليطهّرکم به) تدل علی المطهریة من الحدث لأنّ رفع الحدث كان مشروعاً عند نزولها، ولكن لا تدل علی المطهریة من الخبث الاعتباري.

التمسّك بالروایة المنقولة عن المحقق(ره) لاثبات مطهریة الماء من الحدث والخبث والجواب عنه.

نعم، استدل بعض الفقهاء بروایةٍ منقولةٍ عن المحقق(ره) في كتاب «المعتبر» وهي قوله (علیه السلام): «خلق الله الماء طهوراً لا ینجسه شيءٌ الّا إذا تغیّر».[8]

ظاهر الروایة هو اعتبارٌ الطهوریة للماء من یوم خلقه الله تعالی بقرینة «لا ینجسه شيء الا إذا تغیّر». فالمستثنی والمستثنی منه قرینة علی اعتبار الطهوریة للماء من یوم خلقه الله تعالی بحیث لا ینجس بل هو مطهرٌ تكویني.

لأنّ خلقه خلقٌ تكویني، وهو مطهرٌ اعتباري أیضاً؛ لأنّ الله تعالیٰ اعتبر طهوریة الماء حین تكوینه وجعله مما یتطهر به شرعاً.

لكن لا یتم الاستدلال بهذه الروایة لانها مرسلةٌ أولاً وقد نقله المحقق في المعتبر[9] فقط، وثانیاً لا توجد هذه الروایة في كتبنا الروائیة فلا یمكن التمسك بها كقرینةٍ علی الآیات المذكورة.

(والحمد لله ربّ العالمین)


[1] . كقول الشارع: النجس یتطهر بصب الماء علیه.

[2] . سورة الفرقان (25)، آیة 48.

[3] . الطهور التكویني هو كون الماء طهوراً من یوم خلقه الله تعالیٰ حسب مشیته وارادته.

[4] . الطهور الاعتباري هو حصول الطهارة عند استعمال الماء.

[5] . سورة الانفال (8). آیة 11.

[6] . اي ان الشارع بما هو شارع حكم بطهارة بعض الاشیاء ونجاستها واعتبرهما لمصادیق الاشیاء.

[7] . اي وضع اعتبارها عرف العقلاء والشارع لم یقرر بعض مواردها وأضاف مصادیق اخری.

[8] . قال المحقق جعفر بن الحسن بن سعید الحلي في المعتبر: قال (علیه السلام) «خلق الله الماء طهوراً ـ لا ینجسه شيء ـ إلّا ما غیر لونه أو طعمه أو ریحه» المعتبر في شرح المختصر، (قم، مؤسسة سیدالشهداء (علیه السلام) ط 1، ت 1407) ج 1، ص 44.

[9] . وقد سبق المحقق في نقلها ابن ادریس، وقد جعلها من الروایات المتفق علیها. الشیخ حرالعاملي، وسائل الشیعة (قم، موسسة آل البیت (علیهم السلام)، ط 1 ت 9، 1409 ق)، ج 1 ص 135؛ جعفر بن الحسن المحقق الحلي، المعتبر في شرح المختصر، (قم موسسة سیدالشهداء (علیه السلام) ط 1، ت 1407)، ج1، ص 44؛ محمد بن منصور ابن ادریس الحلي، أجوبة مسائل ورسائل في مختلف فنون المعرفة. (قم، دلیل ما، ط 1، 1429 ق)، ص 48.