بسم الله الرحمن الرحيم
البحث (92)
قد ذكرنا أنه لا يجب التنبيه على الامام (علیه السلام) في نفس هذه الرواية، والشاهد القطعي له هو حكم الامام (علیه السلام) في ذيل هذه الصحيحة حيث قال(ره): «وكره أن يبول في الماء الراكد»، ولا شبهة في تنجس الماء الراكد القليل الفاقد للمادة مع أنّ الامام (علیه السلام) لم يشر إليه في هذه الرواية، بل بيّن انفعال الماء القليل بملاقاة النجس في رواياتٍ اخرى، والأمر كذلك في المقام حيث حكم الامام (علیه السلام) في رواياتٍ اخرى بعدم انفعال الماء إذا بلغ حدّ الكرّ، كقوله (علیه السلام): «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجسه شيء» وهذا يشمل مطلق الماء لا خصوص الماء الراكد، أو قوله (علیه السلام): «الماء إذا بلغ قدر كرٍّ لا ينفعل»[1] وهذا يشمل مطلق المياه، ومفهومه هو انفعال ما يكون دون الكرّ من المياه وان كان جارياً فتبيّن اعتبار الكرية في اعتصام الماء من دون فرقٍ بين المياه.
إن قلت: إنّ مفهوم تلك الروايات يعارض هذه الرواية بالعموم والخصوص من وجهٍ إذ هذه الرواية تدل على انّ الماء الجاري لا ينفعل، سواءٌ كان قليلاً أو كثيراً، ومفهوم تلك الروايات يحكم بأنّ «غير الكرّ ينفعل» سواءٌ كان جارياً أو غير جارٍ فتشمل غير الجاري من المياه من دون تعارض. فمفهوم قوله (علیه السلام): «إذا بلغ الماء قدر كرٍّ لا ينجسه شيء» لا يعارض غير الجاري، والرواية الدالة على عدم انفعال الماء الجاري تشمل الماء الجاري البالغ قدر كرٍ بلا كلام. أما التعارض فيقع بين مفهوم تلك الروايات وهذه الرواية في الماء الجاري القليل.
عدم وجود تعارضٍ بين الروايات الواردة في الماء الجاري والروايات الواردة في عدم انفعال الكرّ
لا وجه لهذا الكلام لأنّ التعارض يحدث فيما إذا كان لهذه الروايات لسانٌ يدل على اعتصام الماء الجاري ولكنّ الامام (علیه السلام) سكت فيها ولم يذكر الاعتصام في الماء الجاري لانّها واردةٌ في مقام بيان حكم التبول في الماء، وذكر (علیه السلام) الحكم الآخر وهو تنجس الماء من خلال مفهوم قوله (علیه السلام): «إذا بلغ الماء قدر كر لا ينفعل» فلا مجال لحدوث التعارض هنا إذ التعارض يتحقق فيما إذا كان لكلّ طرفٍ لسانٌ، وأحد الطرفين في المقام فاقدٌ للّسان؛ لانه في مقام بيان حكم البول كما لا يخفىٰ.
وإن تنزلنا درجةً قلنا نسلم نسبة العموم والخصوص من وجه، ولكن لا دلالة لهذه الروايات على اعتصام الماء الجاري حتىٰ مع قلته والّا وقع التعارض. هذا بالنسبة إلى الروايات التي سئل فيها عن حكم البول في الماء، واما موثقة سماعة: «سألته عن الماء الجاري يبال فيه؟ قال: لا بأس به» فلا يمكن الاستدلال بها؛ لانها في مقام بيان حكم البول أيضاً، وليس في مقام بيان حكم الماء. نعم، لو كان السؤال في الموثقة عن «الماء الجاري الذي يبال فيه» وعن حكم الماء الجاري لتمسكنا بإطلاق كلام الامام (علیه السلام) في نفي البأس عن الماء، ولكن ورد في الموثقة ما نصه: «سألته عن الماء الجاري يبال فيه» فهذا ليس وصفاً، وظاهر الموثقة كنظائرها الواردة بكثرة هو السؤال عن حكم الفعل، كما في الرواية الواردة في السؤر[2]، حيث يقول: «سألته عن فضل البقر والشاة والحمار يتوضأ منه ويشرب» هذا سؤالٌ عن الفعل. نعم، لو كان الراوي سائلاً عن «سؤر الشاة الذي يتوضأ به» أو «الذي يغتسل به» وما شابه ذلك لكان سؤاله عن حكم السؤر نفسه، فلا يحتمل ذلك، بل محل السؤال هو الفعل: «سألته عن فضل البقر والشاة والحمار يتوضأ منه ويشرب» والمقام من هذا القبيل حيث يقول: «سألته عن الماء الجاري يبال فيه، قال: لا بأس به» نعم، لو كان البول وصفاً للماء: «سألته عن الماء الجاري الذي يبال فيه» ـ كما مرّ نظيره في أخبار الكرّ حيث سئل فيها عن ماء الغدير الذي تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب، وأجاب الامام (علیه السلام) بأنه لا بأس به ـ لكان ظهور الرواية هو عدم الانفعال واعتصام الماء الجاري.
والحاصل أنّ هذه الرواية ليست في مقام بيان اعتصام الماء الجاري كي نتمسك بإطلاقها، بل هي كنظائرها من سائر الروايات بلا فرقٍ بينها، كقوله (علیه السلام): «لا بأس بأن يبول الرجل في الماء الجاري» أو كقوله (علیه السلام): «لا بأس بالماء الجاري يبال فيه» كما يطبّق هذا المعنى على نفي البأس عن التوضؤ بفضل البقر والشاة في قوله (علیه السلام): «لا بأس».
فهذه الرواية لا تدل على الاعتصام، وقيل لو كانت هذه الرواية «سألته عن الماء الجاري يبال فيه» دليلاً على طهارة الماء الجاري لقدّمنا دلالتها رغم تعارضها في هذا الفرض مع مفهوم أخبار الكرّ، أي لو كانت الرواية دليلاً على اعتصام الماء الجاري وعدم تنجسه بالبول لتعارضت مع مفهوم أخبار الكر، لكن لم توجب المعارضة سقوطها عن الاعتبار لما أشرنا مراراً وكراراً إلى تقدم اطلاق المخصص واطلاق المقيد على اطلاق العام واطلاق المطلق. فقوله (علیه السلام): «الماء إذا لم يبلغ قدر كرٍّ ينجسه شيء» مطلقٌ وعام، وإذا كان قوله (علیه السلام): «الماء الجاري لا بأس به» مخصصاً ومقيداً له كان اطلاقه مقدماً، ولكن لا وجه لهذا الكلام لانّ نسبة الماء الجاري مع مفهوم «إذا لم يبلغ الماء قدر كرٍّ ينجسه شيء» هي العموم والخصوص من وجه، فذلك المفهوم ليس عاماً بالنسبة إلى قوله: «الماء الجاري لا ينفعل» فلابدّ من ملاحظة المفهوم نفسه.
لو كان لدينا عمومٌ نحو: «الماء ينفعل بالملاقاة» اضافةً إلى روايةٍ بهذا النص: «الماء الجاري لا ينفعل بالملاقاة» لجعلناهما صغرى لقاعدة تقديم اطلاق المخصص على اطلاق العام عند تخصيص العام، ولكن لا يوجد في المقام ما يدلّ على أنّ «الماء ينفعل بالملاقاة» وأما قوله: «الماء الذي ليس بكرٍّ ينفعل بالملاقاة» فهو ماءٌ خاصٌ له خصوصية، وهو الماء الذي لم يبلغ قدر كرّ، كما أنّ للماء الجاري خصوصيةٌ، وذكرنا سابقاً أنّه إذا كان هناك خطابان تميّز كلّ منهما بخصوصية، فالتعارض بينهما تعارضٌ بالعموم والخصوص من وجه؛ إذ لا يوجد في المقام صغرى لكبرى تقديم اطلاق المخصص على عموم العام واطلاق المطلق، بل الموجود في المقام هو الماء الجاري الواجد لخصوصية، والماء الواجد لخصوصية القلة. فالنسبة هي العموم والخصوص من وجه، ويقع التعارض في الماء الجاري القليل، وحينئذٍ لابدّ من الرجوع إلى حكم التعارض الخاصّ بهذه النسبة.
والحمد لله ربّ العالمين.
[1]. هذه العبارة مضمون الرواية لا نفسها كما ان العبارة المذكورة قبلها في كلام الميرزا التبريزي(ره) وهي قوله: «إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء» مستفادة من مضمون الروايات فتعتبر تلك الروايات سنداً لهاتين العبارتين.
[2]. ورد في الروايات المعتبرة ما نصه:….