لا فرق بین النابع الرشحین والفوراني (ج 96)

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث (96)

عدم الفرق بين النابع الرشحي والفوراني

قال صاحب العروة(ره): «الماء الجاري وهو النابع السائل على وجه الارض فوقها أو تحتها كالقنوات لا ينجس بملاقاة النجس ما لم يتغير، سواءٌ كان كراً أو أقل». يدور البحث هنا في مقامين؛ كون الماء ذا مادةٍ نابعةٍ والسيلان، كما صرّح بهما السيد(ره) في قوله: «النابع السائل على وجه الأرض فوقها أو تحتها».

ثمّ قال(ره): «وسواءٌ كان نبعه بالفوران أو بنحو الرشح» لأنّ المادة إما يفور منها الماء كما هو الحال في بعض الآبار، وإما يترشح منها الماء كما هو الحال في أغلب الآبار، وحال الجاري كحال البئر، فهل يعتبر في الجريان أن يكون بالدفع والفوران، أو أنّ الرشح فيه يكفي لتحقق موضوع الجاري؟

إنّ مقتضى إطلاق صحيحة ابن بزيعٍ الواردة في ماء البئر، هو عدم الفرق بين الفوران والرشح؛ لأنّ مادة البئر تشمل مطلق المادةٍ، والامام (علیه السلام) لم يقيدها بالفورانية أي لم يقل: «لأنّ له مادةً فورانية» والفوران ليس قيداً غالبياً؛ إذ المادة في كثيرٍ من الآبار رشحية، وقد ذكرنا أنّ عمدة الدليل على اعتصام الماء الجاري هي هذه الصحيحة وهي تشمل المادة الرشحية.

جاء في العروة: «ومثله كل نابعٍ وإن كان واقفاً». ظهر مما تقدم أنّ وجه التشبيه هو الاعتصام، فالماء الراكد الواجد للمادة يماثل الماء الجاري في الاعتصام، ولكن لا تترتب عليه الأحكام المختصة بالماء الجاري كغسل الثوب مرةً واحدةً، والظاهر أنّ كلام صاحب العروة ليس ناظراً إلى تلك الجهة، بل ناظرٌ إلى الاعتصام؛ لأنّ التشبيه في كلامه: «ومثله كل نابعٍ وإن كان واقفاً» راجعٌ إلى قوله: «لا ينجس بملاقاة النجاسة». وهذا واضحٌ.

تنجس الآبار الرشحية من منظور والد صاحب الحدائق(رحمهما الله):

نقل صاحب الحدائق(ره) عن والده(ره) عدم التزامه باعتصام الآبار الفاقدة للمادة الفورانية، والظاهر أنّ والده اشترط وجود المادة الفورانية في اعتصام البئر، واستشكل في الآبار الموجودة في بلده وفي البقاع المجاورة له؛ لاجل أنها رشحيةٌ فإنّه(ره) كان يطهّر تلك الآبار الرشحية بإلقاء الكر عليها دون مجرد النزح منها؛ إذ التطهير بالنزح يختص بفرض حدوث التغير، فيطهر البئر بعد زوال التغير بالنزح واتصاله بالمادة الفورانية، ولكنّ الآبار الرشحية تنفعل بمجرد الملاقاة فلابدّ من تطهيرها.

ما هي كيفية تطهير الآبار الرشحية؟

إنّ تطهيرها ـ حسب كلامه(ره) ـ يتم بالقاء الكر عليها كأن يجعل الكر في ظروفٍ متعددة، ثمّ أورد صاحب الحدائق على والده، بأنّه يرىٰ كفاية الالقاء ولو على وجه الافتراق، كما إذا أخذ كلّ واحدٍ من جماعةٍ مقدار ماءٍ يبلغ مجموعه الكر وألقوه في البئر، مع أنّ المطهّر وهو القاء الكر يعتبر أن يقع على البئر مرةً واحدةً على وجه الاجتماع، وإلا تنجست المياه القليلة الملقاة بملاقاتها لماء البئر النجس وإن ألقوها في آنٍ واحد؛ لانها مياهٌ متفرقةٌ قليلة، وهذه مسألةٌ ترتبط بتقوم السافل بالعالي، وأنّ السافل يتقوم بالعالي إن لم يكن العالي كراً فالماء الملقىٰ يتنجس. وهذه مسألةٌ معتدٌ بها، وسيأتي أنه إذا وضع الماء في دلوٍ واحدٍ وبلغ قدر الكر وألقي بالتدريج تنجس، فضلاً عن وضع الماء في ظروفٍ متعددةٍ قليلة الماء. فما هو وجه عدم شمول صحيحة ابن بزيعٍ للآبار الرشحية؟ لم نعثر على وجهٍ له، ولم نعلم ما كان يدور في ذهن والده صاحب الحدائق، ولم نعرف السبب وراء التزامه بهذا الحكم، ولعلّه ـ والله العالم ـ ظنّ أنّ اخبار نجاسة البئر والنزح مختصةٌ بالآبار الرشحية، ولكن لا يحتاج التطهير حينئذٍ إلى القاء الكر، بل لابدّ من النزح في التطهير، وعلى أية حالٍ لم يصرح صاحب الحدائق ولا غيره بشيءٍ يلقي الضوء هنا، ولم نجد معنىً معقولاً لما ذهب إليه كي نرفع اليد عن اطلاق: «لأنّ له مادة» لأنّ المادة هي التي يخرج الماء منها ولو بنحو الرشح كما هو الغالب. فتحصل أنّ ماء البئر معتصمٌ من دون فرقٍ بين الرشح والفوران وبين قليله وكثيره. والحمد لله ربّ العالمين.