بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس (99)
عمدة الدليل على عدم النجاسة في الجريان الدفعي وشبهه
ما هي الجهة المصحّحة للالتزام في المقام بأنّ الماء «إذا كان جارياً من الاعلىٰ إلى الاسفل أو جارياً بدفعٍ وقوةٍ لا يتنجس»؟ فلماذا لا ينفعل الجزء الدافع بملاقاة الجزء المدفوع للنجاسة أو «لا ينجس الاعلى بملاقاة الاسفل»؟ فإنّه ماءٌ واحدٌ ومفهوم أخبار الكر يقتضي النجاسة، وأيضاً ثمة أخبارٌ خاصةٌ يستفاد منها تنجس الماء القليل وإن تغاير بعضه بعضاً كما إذا لم يكن الماء في دلوٍ واحدٍ وتميز الجزء الملاقي منه عن غير الملاقي.
ومن هذه الاخبار الخاصة، صحيحة علي بن جعفر: «وبإسناد الشيخ عن محمد بن أحمد بن يحيى الاشعري» وسندها من الاسانيد المكررة ولا بأس به «عن العمركي» وهو بن علي البوفكي، من الاجلاء «عن علي بن جعفرٍ عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن الدجاجة والحمامة وأشباههما تطأ العذرة ثمّ تدخل في الماء يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلا أن يكون الماء كثيراً قدر كر».
ومن المعلوم أنّ الماء الذي تدخل فيه الدجاجة والحمامة وأشباههما هو ماءٌ قليلٌ ذو شطرين تربطهما السواقي المحاذية لحافاتهما وقد يتجمع جرّاء هطول الأمطار ولا يبلغ حدّ الكر، وقد حكم الامام (عليه السلام) بعدم جواز التوضؤ من الماء الملاقي لعين النجس، وهذا الحكم مطلق فإذا وطأت الدجاجة العذرة ودخلت أحد الشطرين من الماء ولم يبلغ قدر الكر لم يجز التوضؤ لا من يمينه ولا من يساره، ولا من المتصل به، وان كان الشطران متغايرين كما تقتضيه الرواية إذ يسود التمايز هذه المستجمعات المائية في غالب الأحيان.
فمقتضى مفهوم أخبار الكر ومقتضى هذه الرواية هو الحكم بنجاسة الماء القليل كلّه ولو مع وجود الميز والمايز ولا يجدي مجرد الجريان من الاعلى إلى الاسفل لانه داخلٌ تحت مفهوم أخبار الكر. فكيف نلتزم وما هو الوجه الصحيح للالتزام بعدم النجاسة؟ إنّ الميز هو الجريان بالدفع، فمفهوم أخبار الكر ونظائر هذه الرواية المذكورة منصرفةٌ عن صورة الجريان بالدفع ومنشأ الانصراف هو الارتكاز العرفي لأنّ النجاسة الشرعية تماثل القذارة العرفية لدى العرف، فإذا صبّ من ماء الابريق بالدفع على يدٍ ملوثةٍ بالقذارة العرفية تقذر الماء الملاقي لليد عرفاً، ولم يتقذر الماء الباقي في الابريق عرفاً، والعرف يعامل النجاسة الشرعية معاملة القذارة العرفية، فتحتذي حذوها.
فتحصل مما ذكرنا انه لابد من التعبير بهذا الاسلوب: «نعم، إذا كان الماء جارياً بالدفع والقوة فلا يتنجس» ولا تسري النجاسة من الجزء المدفوع الملاقي للنجس إلى الجزء الدافع «لانصراف الاخبار عنه» ولو كان منشأ الانصراف هو الارتكاز العرفي في القذارة العرفية، فيتلوث الماء المصبوب من الابريق على اليد القذرة، ومجرد اتصاله بالماء الباقي في الابريق لا يوجب السراية. فالميز هو الجريان بالدفع والقوة، سواء كان من الاعلى إلى الاسفل أو من الاسفل إلى الأعلىٰ، وينفعل الجزء المدفوع الملاقي ولكن لا تسري نجاسته إلى الجزء الدافع.
هذا هو التقرير الصحيح في المقام.
تنجس الماء عند الشك في وجود المادة له
مسألة 2: «إذا شكّ في أنّ له مادةً أم لا وكان قليلاً ينجس بالملاقاة».
يدور الكلام في هذه المسألة حول الشك في وجود المادة للماء إن كان قليلاً إذ الكر معتصمٌ لكريته، والقليل معتصمٌ لمادته.
إنّ لآبار المياه انواعاً كثيرةً منها الآبار المحفورة التي تتواجد في الصحاري منذ سالف الايام ويلقى فيها الماء لتلبية احتياجات المسافرين والنازلين في الصحراء، ومياه هذه الابار تكون عرضةً للجفاف والانحسار والانخفاض فقد يجيء أحدٌ إلى بئرٍ ويشك في أنّه له مادةٌ أو هو بئرٌ محفورٌ لاختزان الماء، إذا شك في ان له مادة أم لا وكان قليلاً ينجس بالملاقاة، ولا ريب في أنّ البئر معتصمٌ لمادته ولو كان قليل الماء.
وكثيراً ما يبتلي المكلف بهذه المسألة في يومنا هذا، فإنّ الماء الموجود في أنابيب المتعارفة في زماننا إذا اتصل بالمادة لا ينفعل بالملاقاة ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة فيكون كماء الحياض الصغار في الحمام حيث يتصل بالخزانة ويكون بمنزلة الماء الجاري في الاعتصام، وقد ينقطع الماء عن المادة ويتنجس بالملاقاة مع قلته كما لو وقع النجس في طستٍ وصبّ عليه من الماء القليل، فالماء الملقى فيه نجس.
هذه المسألة عامة، والكلّ مبتلى بها، وغالباً ما يحدث الضعف في قوة دفع الماء أو يفاجئ المكلف انقطاع الجريان خلال فترة الصيف، ويشك في أنه ماءٌ قليلٌ بلا مادةٍ أو متصلٌ بالمادة، فالميزان هو المادة، فما هو الحكم عند الشك في اتصاله بالمادة وانقطاعه عنها أو الشك في أصل وجود المادة للماء؟ قال صاحب العروة(ره): «إذا شكّ في أنّ له مادةٌ أم لا وكان قليلاً ينجس بالملاقاة». والحمد لله ربّ العالمين.