بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس (77)
إنّ مقتضی الاستصحاب أو الادلة هو بقاء الماء النجس السابق علی نجاسته وبقاء الماء الآخر علی طهارته ولذلك لا یصح الحکم بطهارة الماء النجس السابق. أمّا إذا امتزج الماءان بحیث لم یمکن اختلافهما في الحکم ارتکازاً فلابدّ أن یکون الماء کلّه طاهراً أو نجساً. فقد قالوا باعتبار الامتزاج لأنّ الامتزاج یوجب تساقط الاستصحابین وتساقط اطلاق أدلة التنجّس واطلاق أدلة الاعتصام المقتضیین لبقاء أحد الماءین في طهارته وبقاء الآخر في نجاسته.
فإذا تساقط الاطلاقان وتعارض الاستصحابان في صورة الامتزاج، فالمرجع إلى قاعدة «الماء کلّه طاهر» وحینئذٍ یحکم بطهارة الماء کلّه.
هذا الدلیل هو العمدة لدی القائلین باعتبار الامتزاج في طهارة الماء لأنّ عدم حصول الامتزاج یؤدي إلى لزوم الأخذ بمقتضی الاستصحابین أي استصحاب طهارة الماء الطاهر في السابق ونجاسة الماء النجس في السابق إذ کان جزءٌ من الماء طاهراً، وجزءٌ منه نجساً بلا شبهةٍ وکذلك عدم حصول الامتزاج ینجرّ إلى لزوم التمسّك بمقتضی الدلیل الدال علی نجاسة جزءٍ من الماء والدلیل الدال علی اعتصام الجزء الآخر منه، وحینئذٍ یبقی حکم کلّ واحدٍ منهما علی حاله ولم یثبت الاجماع المدعیٰ علی وحدة الحکم کما مرّ ولذلك یحکم بنجاسة جزءٍ من الماء وطهارة الباقي.
أمّا إذا امتزج الماءان فلم یمکن الأخذ بالاطلاقین ولا بالاستصحابین بل یرجع في الکلّ إلى قاعدة «الماء کلّه طاهرٌ حتّی تعلم أنّه قذر»[1].
هذا هو دلیل القائلین بالامتزاج.
ونحن سنبحث بالتفصیل في المسألة القادمة، ونذهب إلى عدم اعتبار الامتزاج، ونقول: یطهر الماء کلّه بعد زوال التغیر عن الماء المتنجس ـ کما هو المفروض ـ بمجرد الاتصال وإن لم یمتزج الماءان.
من أین استفدنا هذا الحکم؟
الدلیل علی عدم اشتراط الامتزاج في طهارة الماء النجس
ومن جملة ما یمکن أن یستدل به في المقام وقد استفدنا منه: صحیحة ابن بزیعٍ الواردة في ماء البئر حیث قال الامام (علیه السلام) فیه: «ماء البئر واسعٌ لا یفسده شيءٌ إلّا أن یتغیر ریحه أو طعمه فینزح حتی یذهب الریح ویطیب طعمه» وقد علّله الامام (علیه السلام) بقوله: «لأنّ له مادّة» ومقتضی التعلیل في هذه الروایة هو طهارة ماء البئر النجس بمجرد اتصاله بالماء المعتصم، ومادة ماء البئر التي تتصل بالماء النجس من جملة المیاه المعتصمة.
بیان ذلك:
قد مرّ سالفاً أنّ ظاهر هذه الصحیحة هو انفعال الماء المتغیر قبل زوال التغیر وإن کان التغیر ضعیفا، مثلاً في بدایة النزح أو أثنائه یختلط الماء النابع من المادة بماء البئر المتغیر ویحدث فیه التغیر فینفعل ماء البئر کلّه ویکون نجساً مادام التغیر باقیاً فیه؛ إذ «لا یفسده شيءٌ إلّا إذا تغیر» فأوجب فیه النزح إلى أن یزول عنه تغیره. فإذا ازیلت النتانة بنزح الدلو الآخر أو بنزح دلوین قبل الدلو الآخر ـ حسب الفرض ـ طهر ماء البئر کلّه وإن لم یمتزج بالماء النابع من المادة لأنّ ماء البئر لا یمتزج بماء المادة المعتصمة بمجرد زوال التغیر عادة، بل المعمول هو تحقق الاتصال فقط وقد قال الامام (علیه السلام) قبالة التعلیل: إنّ ماء البئر لا یفسده شيءٌ إلّا أن یتغیر» وفساد الماء شرعاً هو نجاسته، والنجاسة باقیةٌ مادام التغیر باقیاً ثمّ یأمر الامام (علیه السلام) بالنزح، فما الدلیل علی النزح؟ إنّ النزح لا یحتاج إلى دلیلٍ إذ التغیر یزول بالنزح لا محالة فقوله (علیه السلام): «لأنّ له مادّة» لیس تعلیلاً للنزح، بل هو تعلیلٌ للطهارة بمعنی أنّ مادة البئر علةٌ لطهارة مائه بعد زوال تغیره بالنزح فیذهب الریح ویطیب الطعم بعد ازالة التغیر بالنزح، ویطهر ماء البئر کلّه لأنّ له مادّة، ومقتضی التعلیل هو طهارة الماء بعد زوال التغیر فور اتصاله بالمادة المعتصمة من دون اعتبار الامتزاج. بیان ذلك:
هذه الصحیحة قد حلّت مشاکل کثیرةً ففیها ذکر حکمٌ وهو قوله (علیه السلام): «ماء البئر واسع» إذ المراد من «الواسع» هو الواسع الحکمي، وقوله «لا یفسده شيءٌ» معنیً آخر للسعة وذکر فیها حکمٌ آخر هو قوله (علیه السلام): «إلّا أن یتغیر» بمعنی أنّ التغیر یوجب الفساد.
ثمّ یقول (علیه السلام): «فینزح حتی یذهب الریح ویطیب طعمه» فالغایة هي ذهاب الریح وطیب الطعم، وهذا أمرٌ ثالث.
ثمّ یقول (علیه السلام): «لأنّ له مادّة».
نحن نقول إنّ قوله (علیه السلام): «لأنّ له مادّة» تعلیلٌ لعدم فساد الماء الفاقد للتغیر، بمعنی أنّ ماء البئر طاهرٌ إذا لم یحدث فیه التغیر أو حدث فیه التغیر ولکنه زال بالنزح وذهاب الریح وطیب الطعم. فکأنّه قال (علیه السلام): «فینزح حتی یذهب الریح ویطیب طعمه فیطهر حینئذٍ» لماذا؟ «لأنّ له مادّة».
فقوله (علیه السلام): «لأنّ له مادّة» علّةٌ لطهارة ماء البئر أي طهارة ماء البئر بعد ذهاب الریح وطیب الطعم بسبب النزح. لماذا یطهر؟ لأنّ له مادّة. والحمد لله رب العالمین.
[1]– ان قاعدة «الماء کله طاهر حتی تعلم انه قذر» مأخوذة من النصوص وقد نقل خبران في الکافي بسندین بهذا النص کما یلي… وتوجد أحادیث صحاح بهذا المضمون إضافة إلى الروایتین المذکورتین….