طهارة الماء المتغیر بالدم والصبغ (ج 85)

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (85)

الحكم بطهارة الماء عند تغيره بالدم والصبغ

مسألة 17: «إذا وقع في الماء دمٌ وشيءٌ طاهرٌ أحمر فاحمرّ بالمجموع لم يحكم بنجاسته».

وظهر من الفروض السابقة حكم المسألة 17. فإذا وقع في الماء دمٌ وصبغٌ وحصل التغير بمجموعهما لم يحكم بنجاسة الماء؛ لأنّ موضوع النجاسة هو تسبب النجس في إحداث التغير في الماء أو تغير الماء به، وفي هذا الفرض لم يتغير الماء بالدم وحده، بل تغير بمجموع الدم والصبغ، كما إذا ألقي على الماء من أحد أطراف الحوض دمٌ وصبّ عليه صبغٌ طاهرٌ من طرفه الآخر وتغير لون الحوض بهما بحيث لم يكن الدم وحده قابلاً لاحداث التغير في الماء، بل كان يستهلك فيه ولم يؤثر في تغير لون الماء، فتغير الماء هنا مستندٌ إلى مجموعهما، وما ذكرنا من إلقاء الدم على الماء من طرفٍ والقاء الصبغ عليه من طرفٍ آخر فهو من باب المثال؛ إذ لا فرق في الحكم بعدم النجاسة بين ورودهما من طرفين أو من طرفٍ واحد، أو كانا مختلفين فلا يؤثر هذا التغير في انفعال الماء لانّا أسلفنا بقولنا: انه يشترط في الحكم بالنجاسة، تغير ماء الكر المعتصم بأوصاف النجاسة لا بأوصاف المتنجس فإذا اختلط الدّم بالصبغ وصار الصبغ متنجساً وتغير لون الماء بهما لم يحكم بنجاسة الماء لأنّ التغير هنا ليس مستنداً إلى النجس الواقع في الماء، بل إليه وإلى غيره وهو لا يكفي في الحكم بالانفعال لانه ليس موضوعاً للنجاسة.

الحكم بنجاسة ‌الماء المتغير بعد زوال التغير بنفسه عن الماء

مسألة 18: «الماء المتغير إذا زال تغيره بنفسه من غير اتصاله بالكر أو الجاري لم يطهر. نعم، الجاري والنابع إذا زال تغيره بنفسه طهر لاتصاله بالمادة، وكذا البعض من الحوض إذا كان الباقي بقدر الكرّ كما مرّ».

إذا تغير أحد أوصاف الماء الثلاثة بالنجاسة وزال تغيره بنفسه من دون اتصاله بالمعتصم لم يؤثر هذا الزوال التلقائي في طهارة الماء فلا يطهر الماء بزوال التغير من قبل نفسه، والكلام فيه يدور حول مقامين: أحدهما؛ فيما إذا كان الماء قليلاً وثانيهما؛ فيما إذا كان معتصماً.

أما إذا كان الماء قليلاً متغيراً وعلم استناده إلى النجس وزال تغيره بنفسه فلا كلام في عدم طهارته بالاتفاق؛ إذ لا يعتبر التغير في حدوث التنجس في الماء القليل، بل إنه ينفعل بمجرد الملاقاة للنجس، وقد لاقى القليل نجساً حسب الفرض، والحكم في هذه المسألة في الماء القليل إتفاقي.

اما إذا كان الماء معتصماً ـ كما لو كان كراً متغيراً أو جارياً متغيراً أو بئراً متغيراً ـ وزال التغيّر من قبل نفسه فالمشهور[1]  ذهب إلى بقاء النجاسة في الماء.

استصحاب الحكم بالتنجس بعد زوال التغير عن الماء بنفسه والاشكال عليه

استدل الفقهاء في كلماتهم على استصحاب بقاء التنجس بعد زوال التغير من قبل نفسه وقالوا: كان الماء نجساً يقيناً قبل زوال تغيره، ونشك بعد زوال التغير أنّ النجاسة باقيةً أو لا، فمقتضى استصحاب الحالة السابقة: «لا تنقض اليقين بالشك» هو بقاء النجاسة السابقة.

لكنكم تعلمون أنّ هذا الاستصحاب هو من نوع الاستصحاب في الشبهات الحكمية ولا عبرة به، كما ذكرناه مراراً وتكراراً؛ لأنه مبتلى بالمعارض، بيان ذلك: أنّ النجاسة حكمٌ جعليٌ اعتباريٌ ولا نعلم في المقام أنّ جعل النجاسة التي اعتبرها الشارع للماء المعتصم المتغير بالنجاسة الواقعة فيه أهو أوسع بحيث يشمل «حال زوال تغيره ما لم يتّصل به الجاري والمعتصم الآخر، أم ليس بأوسع؟ والشارع انما اعتبر النجاسة للماء مادام كونه متغيراً؟ فهل يكون حدوث التغير المعتبر شرعاً دخيلاً في بقاء النجاسة كما كان دخيلاً في حدوثها؟ هنا استصحاب آخر مفاده هو عدم جعل النجاسة من قبل الشارع قبل التشريع، لا في حال تغير الماء بالنجاسة الواقعة فيه، ولا بعد زوال تغيره، ولا بالنسبة إلى الماء الكثير، وعدم الجعل متيقنٌ لا شك فيه، وقد تحول إلى الجعل والاعتبار في زمان التغير قطعاً، ولكن يحتمل بقاء العدم الأولي في زمان زوال التغير، وكما أنّ أصل الحكم جعليٌ فسعة الحكم وضيق الحكم جعليٌ أيضاً، وقد شرحناه في اصول الفقه. فاستصحاب بقاء النجاسة معارضٌ باستصحاب عدم جعل النجاسة في حال زوال التغير، وأدلة الاستصحاب في الشبهات الحكمية لا تشمل صور التعارض، والفرض المذكور من مصاديقها. فإذا زال التغير من قبل نفسه ولم نعثر على دليلٍ اجتهاديٍ نحكم ببقاء النجاسة، وابتلي الاستصحاب بالمعارض فالمرجع هو قاعدة الطهارة. «الماء كلّه طاهر» فهذا الماء طاهر.

التمسك بصحيحة ابن بزيعٍ للاستدلال على بقاء التنجس بعد زوال التغير بنفسه

قيل إنّ في المقام دليلاً على بقاء النجاسة، وقد استفيد هذا الحكم من صحيحة ابن بزيعٍ الواردة في ماء البئر. قال (علیه السلام): «ماء البئر واسعٌ لا يفسده شيءٌ إلّا أن يتغير فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأنّ له مادة».

قيل في وجه الاستدلال بالصحيحة إنه لو كان زوال التغير بنفسه موجباً لطهارة ماء البئر وطهارة الماء المعتصم ـ كماء ‌الكر ـ لما علّل الامام (علیه السلام) فيها طهارة ماء البئر بعد طيب الطعم وذهاب الريح، بوجود المادة له، فإذا كان زوال التغير موجباً لطهارة ماء البئر أو ماء الكر، طهر بعد زوال تغيره بنفسه، سواءٌ كانت له مادةٌ أو لم تكن؛ لأنّ غاية النزح هو ذهاب الريح وطيب الطعم، وبناءً عليه فلو زال التغير من قبل نفسه لطهر الماء، ولكنّ الامام (علیه السلام) علّل في الصحيحة طهارة ماء البئر بعد النزح وزوال التغير بوجود المادة، وهذا دليلٌ على إناطة زوال التغير بالاتصال بالمعتصم وعدم كفاية زوال التغير بنفسه لطهارة الماء المتغير وإن كان اكراراً.

وقفةٌ دقيقةٌ عند فقرة «لأنّ له مادة» في محل الكلام

وقد ذكرنا وجود النقاش في هذا التعليل. فكما أنّ قوله (علیه السلام): «لأنّ له مادة» تعليلٌ لطهارة الماء بعد النزح فإنه تعليلٌ لوسعة ماء البئر: «ماء البئر واسعٌ لا يفسده شيءٌ لأنّ له مادة» وقد ٱستفدنا منها أنّ كلّ ماءٍ ذي مادةٍ محكومٌ بالاعتصام ولا ينفعل إلّا أن يتغير.

فإن كان ماء البئر قدر الكر فلا مدخلية للمادة في السعة الحكمية‌ التي هي بمعنى الاعتصام، فماء البئر الذي هو بقدر الاكرار لا يفسده شيءٌ وإن جفّت مادته أو انقطع اتصاله بمادته لفاصلٍ مفاجئ. فكما ذكرنا عدم مدخلية المادة في السعة الحكمية‌ لماء البئر إذا كان اكراراً، كذلك نطبّق نفس الكلام علىٰ فرض زوال التغير ونقول: إنّ فرض زوال التغير يماثل الحدوث الانفعالي في الماء فكما أنّ المادة لا مدخلية لها في الحدوث إذا كان الماء كراً، كذلك لا مدخلية للاتصال بالمادة في زوال التغير إذا كان الماء كراً. تبقى في المقام صورة قلة ماء البئر:

فقد قلنا إنّ الماء لو كان قليلاً فلا شبهة في عدم طهارته بزوال التغيّر؛ لعدم مدخلية التغير في مثل القليل الذي ليس له مادة، وهنا نقول: إنّ ماء البئر القليل ليس في حكم الماء الراكد الذي ليس له مادةٌ فيطهر بزوال تغيّره لأنّ له مادة، والأمر كذلك في الحدوث. والحمد لله ربّ العالمين.


[1]– جاء في مهذب الاحكام ما نفسه «……».