بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس (84)
إنّ موضوع تنجس الماء هو تغير الماء بالنجاسة الواقعة فيه، وقد جاء في بعض الروايات عنوان «الغلبة» للاشارة إلىٰ طهارة الماء عند غلبة الماء نحو قوله (علیه السلام) في صحيحة حريز: «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء وٱشرب» وقلنا إنّ المراد من غلبة الماء هو عدم تغير الماء في مقابل عدم غلبة الماء وهو غلبة النجاسة وتغير الماء بها؛ إذ الامام (علیه السلام) قال: «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء وٱشرب» ثمّ فرّع عليه وقال في ذيل الرواية المباركة: «فإذا تغير الماء» فيظهر منه أنّ المراد من غلبة الماء هو عدم تغيّره.
فالماء المحكوم بالنجاسة هو الماء المعتصم الذي غيّرته النجاسة الواقعة فيه، أو كان متغيراً بها حسب اختلاف ألسنة الأدلة. فقد صرّح الامام (علیه السلام) في هذه الرواية الشريفة بـ«إذا تغير الماء» إي إذا تغير الماء بالجيفة الواقعة في الماء حكم بنجاسته. فلم يكن الماء في حالته السابقة متغيراً بالنجاسة أو لم تغيره النجاسة الواقعة فيه، ولا اشكال في التعبير عن الحالة السابقة بمفاد «ليس الناقصة» أو مفاد «كان الناقصة».
فتستصحب الحالة السابقة حتى ينتفي موضوع النجاسة و «لم يحكم بالنجاسة».
حكم الماء المتغير بالنجاسة عند الشك في الملاقاة
أما الفرض الثاني فهو التغير بالوجدان بواسطة النجاسة، ولكن يحتمل أن لا يكون التغير بوقوع النجس في الماء وملاقاته له. نعم إنّ تغير الماء بالنجس يوجب تنجس الماء، ولكن في هذا الفرض يحتمل أن يكون تغير الماء مسبباً عن المجاورة، وكون النجاسة بقرب الماء سبباً في تغيره «فلم يحكم بالنجاسة» هنا، لماذا؟ لأنّا نستصحب ونقول إنّ موضوع النجاسة هو تغير الماء بالنجاسة، وهذا الماء لم يكن متغيراً بالنجس الواقع فيه. نعم، إنّ النجس داخل الماء فعلاً، ولكن نحتمل أنّ التغير مسببٌ عن النجس المجاور للماء لا عن النجس الداخل في الماء إذ النجس لا يغير الماء فور وقوعه فيه، بل لابدّ من مضي فترةٍ من الزمن حتى تنتشر أجزاؤه الصغار، وقد أسلفنا أنّ مرور الزمان يوجب ٱنفعال الماء وتأثره واكتسابه الرائحة وإن لم ينتشر النجس في الماء. فلم يتغير الماء بالنجس الواقع فيه سابقاً ولا نعلم تغيره بالنجس لاحقاً فالاستصحاب يحكم بأنّه الآن كما كان على نحو مفاد كان الناقصة.
وكما ذكرنا ربما يتوهم هاهنا متوهمٌ ويقول: إنّ تغير الماء محرزٌ فيما نحن فيه وأصل الاستصحاب إنّما يجري فيما إذا ٱحتملنا أصل وقوع النجس في الماء، وعدم وقوعه فيه، ويثبت به أنّ النجس لم يقع في الماء حتّى يغيره، ولا يثبت بالاستصحاب أنّ التغير الفعلي المحسوس لم يكن مسبباً عن النجاسة أي لا يثبت به أنّه لم يقع في الماء النجس الموجب لتغير الماء، ولم يتغير الماء بالنجاسة على نحو مفاد «ليس التامة» أو لم يحدث تغيرٌ في الماء بالنجاسة الواقعة في الماء. فالأصل لا يثبت عدم ٱستناد التغير الموجود والمحسوس إلى النجاسة فلابد من احراز عدم استناده إلى النجاسة.
والحاصل انه لا يجدي الالتزام بأنّ التغير بالنجاسة لم يحدث في الماء سابقاً فلم يحدث لاحقاً إذ لا يثبت به عدم استناد التغير الخارجي الفعلي إلى النجاسة إلّا من خلال جريان استصحاب العدم الازلي؛ بيان ذلك: لم يكن التغير في زمانٍ مستنداً إلى وقوع النجاسة في الماء و في ذاك الزمان لم يحدث نفس التغير، ولم يكن مستنداً إلى النجاسة الواقعة في الماء، وأما الآن فقد حدث التغير، ولكن لا نعلم استناده إلى وقوع النجاسة في الماء، ونحتمل بقاء عدم الاستناد السابق في هذا الزمان. لكن لا عبرة باستصحاب العدم الازلي.
جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية
لا أساس لهذا التوهم المذكور من الصحّة لانا قلنا لا حاجة لإثبات حدوث التغير بالمجاورة، بل ما نريد اثباته هو نفي موضوع النجاسة بالأصل، وهذا أمرٌ ممكنٌ ولا مانع من الاستصحاب في الأعدام الازلية، فنقول: لم يحدث تغيرٌ مستندٌ إلى وقوع النجاسة في الماء؛ إذ لم يحدث وقوع النجاسة في ذاك الزمان والآن لا نعلم أنّ الماء متغيرٌ بالنجاسة الواقعة فيه أو لا والاستصحاب يقول: والآن كما كان.
أولاً: هذا الاستصحاب ليس عدماً أزلياً لأنّ له حالةً سابقة؛ إذ لم يحدث تغيرٌ مستندٌ إلى وقوع النجاسة في الماء والآن نحتمل عدم حدوث تغيرٍ مستندٍ إلى نجاسةٍ واقعةٍ فيه؛ ولذا ينتفي موضوع النجاسة.
إن قلت: لا يثبت بذلك أنّ هذا التغير الخارجي غير مستندٍ إلى النجاسة.
قلت: لا مانع من استصحاب العدم الازلي إذ لم يكن التغيّر مستنداً إلى وقوع النجاسة وهو الزمان الذي لم يحدث التغير فيه، والآن لا نعلم أنّ التغير الموجود مستندٌ إلى النجاسة أو لا فنقول: إنّ هذا التغير في الماء ليس مستنداً إلى النجاسة إذ يحتمل كونه بالمجاورة، وقد قلنا لا مانع من الاستصحاب في الاعدام الازلية، وقد مرّ في محله شمول أدلة الاستصحاب له.
ثمّ على تقدير التنزل وعدم جريان الاستصحاب والعجز عن إثبات عدم استناد التغير إلى النجاسة إي العجز عن نفيه ـ أو الاغماض من نفيه، وعلى تقدير قصور الاستصحاب عن إفادة عدم التغير بالنجاسة الواقعة في الماء، والذي قلنا انه يجري على نحو مفاد «كان التامة»، تصل النوبة إلى قاعدة الطهارة[1]، لانا نحن نشك في أنّ الماء المتغير فعلاً هل يستند تغيره إلى المجاورة أو إلى نجاسةٍ واقعةٍ فيه، ولا نعلم أنه طاهرٌ أو نجس؟ فنرجع إلى قاعدة «الماء كله طاهرٌ حتى تعلم انه قذر»[2] الشاملة لهذا الفرض؛ إذ لابد من إحراز موضوع النجاسة في الحكم بالنجاسة، أي احراز استناد تغير الماء إلى النجاسة الواقعة فيه، ولا سبيل إلى احراز ذلك، وذكرنا أنّا نتمكن من نفيه، وعلى تقدير العجز عن نفيه والالتزام بعدم امكان اثبات موضوع النجاسة بالاستصحاب لعدم وجود حالةٍ سابقةٍ له فالمرجع هو قاعدة الطهارة والحكم بطهارة الماء، وعلى أي تقديرٍ لم يحكم بنجاسة الماء.
وظهر منه انه لا فرق بين الفرض المذكور وبين ما إذا حدث تغيرٌ في الماء وٱحتملنا حدوث التغير بشيءٍ طاهرٍ كالصبغ أو بشيءٍ نجسٍ كالصبغ النجس؛ إذ قلنا إنّ تغير الماء الكثير بأوصاف المتنجس لا يوجب ٱنفعال الماء فنجري الاستصحاب فيما نحن فيه ونقول: لم تقع في زمانٍ نجاسةٌ مغيرةٌ للماء فيه، ولم يحدث التغير بها والآن كما كان. إذ نحتمل عدم وقوع النجس في الماء وحدوث التغير بالصبغ الطاهر فينتفى بالاستصحاب موضوع النجاسة ويثبت بذلك عدم النجاسة، ولا يشترط فيه إحراز تغير الماء بالصبغ الطاهر أو الصبغ المتنجس، وانّه ليس مأخوذاً في الموضوع، وإضافةً إلى ما ذكر فإنّ هذا الفرض مجرىٰ قاعدة الطهارة أيضاً على تقدير التنزل وغمض العين عن الاستصحاب، فيرجع إلى قاعدة الطهارة ويحكم بطهارة الماء عند الشك في الطهارة والنجاسة. والحمد لله رب العالمين.
[1]– المراد من قاعدة الطهارة هي الأصل في الاشياء فالاصل هو الطهارة: «كل شيء لك طاهر» ويقصد بها الحكم بالطهارة في مرتبة الظاهر وهي مأخوذة من روايات كموثقة عمار «….».
[2]– ان قاعدةالطهارة تغاير قاعدة الطهارة في المياه (الماء كله طاهر) لان قاعدة الطهارة تفيدنا بان الاصل في الاشياء هو الطهارة وقاعدة الطهارة في المياه تفيدنا بان الاصل في المياه هو الطهارة والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق. فالروايات الدالة على قاعدة طهارة المياه لا تصلح لاثبات قاعدة الطهارة وجعلها مستنداً لها ولكن الروايات الواردة في بيان قاعدة الطهارة تصلح لاثبات قاعدة طهارة المياه وجعلها مستندا لها. وعلي أية حال تجدر الاشارة إلى ان مراد المرحوم الميرزا التبريزي من قوله: «الماء كله طاهر» هو قاعدة الطهارة في المياه والتي هي منصوصة كما لا يخفى…