حکم الماء المتغیر من قبل نفسه (ج 86)

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (86)

كانت هذه الرواية ناظرةً إلى صورة كون ماء البئر قليلاً، فماء البئر القليل معتصمٌ لأنّ له مادة؛ ولذلك يصح النقاش في هذه الصحيحة والالتزام بأنّ قوله (علیه السلام): «لأنّ له مادة» ناظرٌ إلى قوله (علیه السلام): «ماء البئر واسعٌ لا يفسده شيء» في جميع الأحوال حتى إذا كان ماء البئر قليلاً فلا يفسده شيء؛ لأنّ له مادة، فلا تدلّ على مدخلية المادة في اعتصام الكر، والرواية ليست ناظرةً إلى هذه الجهة، فلا مدخلية للاتصال بالمادة؛ ولذلك إذا زال تغير ماء البئر بنفسه كما لو ذهب ريحه من قبل نفسه طهر.

عمدة الدليل على تنجس الماء بعد زوال تغيره من قبل نفسه

قلنا إنّ المشهور التزم ببقاء النجاسة فيما إذا تغير الماء الكثير أو ماء الكر وزال عنه التغير من قبل نفسه، واعتبر ملاقاته لمعتصمٍ آخر في الحكم بطهارته، ومن اراد الالتزام بما ذهب إليه المشهور فعليه الرجوع إلى ‌اطلاق الروايات؛ إذ العمدة في المقام هي اطلاق الروايات حيث حكم الامام (علیه السلام) فيها بتنجس الماء الكثير المتغير بوقوع النجاسة فيه، واطلاقها يقتضي بقاء ‌النجاسة وإن زال التغير بنفسه، كما قال الامام (علیه السلام) في صحيحة حريز: «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء وٱشرب فإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا توضّأ منه ولا تشرب» فإطلاق هذه الصحيحة يشمل فرض زوال التغير بنفسه، ولا يختص الإطلاق بهذه الرواية، بل ثمة رواياتٌ مطلقةٌ اخرىٰ، وقد جاء في صحيحةٍ اخرى لحريز: «سأل عن الماء النقيع تبول فيه الدواب؟ فقال (علیه السلام): إن تغير الماء فلا تتوضّأ منه» أي لا تتوضّأ منه وإن زال تغيره بنفسه، وقلنا إنّ المراد من الدواب مطلق الحيوانات وإن كانت سباعاً «وإن لم تغيره أبوالها فتوضّأ منه وكذلك الدم إذا سال في الماء وأشباهه» ومقتضى هذه الصحيحة عدم جواز الشرب وعدم جواز التوضّؤ من ماءٍ متغيرٍ بالدم مثلاً وإن زالت صفرته الحادثة بالدم من قبل نفسه.

وهكذا في رواية أبي خالدٍ القمّاط والتي قلنا لا يبعد اعتبارها: «أنه سمع أبا عبدالله (علیه السلام) يقول في الماء يمرّ به الرجل وهو نقيعٌ ـ فيه الميتة والجيفة ـ فقال أبو عبدالله (علیه السلام) إن كان الماء قد تغير ريحه أو طعمه ـ فلا تشرب ولا تتوضّأ منه وإن لم يتغير ريحه وطعمه فاشرب وتوضّأ».

فهذه اطلاقاتٌ تشمل فرض زوال التغير من قبل نفسه ما لم يتصل بمعتصم، حيث تقتضي إدلة اعتصام ذلك المعتصم طهارة هذا الماء، ومقتضىٰ هذه الاطلاقات بقاء نجاسة الماء ما لم يتصل بمطهّرٍ له؛ ولذلك يتمسك بالاطلاق. لا يقال إنّ اطلاق هذه الروايات معارضٌ باطلاق رواياتٍ اخرىٰ؛ بيان ذلك: ربّما يستشكل ويقال إنّ ثمة رواياتٍ مقتضاها جواز التوضّؤ بماءٍ زالت مغلوبيته بعد أن كان مقهوراً. كما في صحيحة عبدالله بن سنان: «عن علي بن ابراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد» وقلنا إنّ محمد بن عيسى بن عبيدٍ معتبرٌ فهو ثقة ولا عبرة بتضعيفه «عن يونس بن عبدالرحمن، عن عبدالله بن سنان، قال: سأل رجلٌ أبا عبدالله (علیه السلام) ـ وانا حاضر ـ عن غديرٍ أتوه وفيه جيفة؟ فقال: إن كان الماء قاهراً ولا توجد منه الريح فتوضأ» أي توضّأ ولو بعد مقهوريته.

وهذه الرواية مطلقةٌ تدل على جواز التوضؤ بالماء القاهر وان صار قاهراً بعد زوال مقهوريته، كما كانت تلك الروايات الدالة على عدم جواز التوضّؤ بالماء المتغير مطلقةً وشاملةً لفرض زوال التغير بنفسه. فالاطلاقان متعارضان.

ويمكن استفادة الجواز من صحيحة شهاب بن عبدربه حيث قال الامام (علیه السلام): «جئت تسألني عن الغدير يكون في جانبه الجيفة أتوضّأ منه أو لا؟ قال: نعم، قال (علیه السلام): توضّأ من الجانب الآخر إلّا أن يغلب الماء الريح فينتن» وقلنا: إنّ قوله: «في جانبه» ليس بمعنى كون الجيفة خارج الماء بقرينة رواياتٍ اخرىٰ، بل المراد منه كون الجيفة على طرفٍ من الماء داخل الماء، والرواية ظاهرةٌ في هذا المعنى.

«وجئت تسأل عن الماء الراكد من الكر مما لم يكن فيه تغيرٌ أو ريحٌ غالبة، قلت: فما التغير؟ قال: الصفرة، فتوضّأ منه وكلما غلب عليه كثرة الماء فهو طاهر».

وربما يتوهم أنّ قول الامام (علیه السلام): «توضّأ من الجانب الآخر إلّا أن يغلب الماء الريح» يدل على عدم غلبة الريح على الماء بعد زوال التغير، لكن لا اساس لهذا التوهّم من الصحة؛ لأنّ غلبة الريح على‌ الماء توجب عدم جواز التوضّؤ بالمغلوب على كلّ تقدير». والحمد لله رب العالمين.