حکم الماء الراکد (ج 110)

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (110)

حكم العيون الجارية في بعض فصول السنة

مسألة 7: «العيون التي تنبع في الشتاء مثلاً وتنقطع في الصيف يلحقها الحكم في زمان نبعها».

هذه مسألةٌ تعرضنا لها سابقاً ولا حاجة لنا في اعادتها.

وقد ذكرنا الوجوه المحتملة في دوام النبع، ومنها استمرار النبع في جميع الفصول الاربعة، وأشرنا إلى أنّ هذا الشرط لا يعتبر في صدق الماء الجاري، فإذا خرج الماء من المادة الباطنية تحت الارض في أي موسمٍ وزمانٍ معتدٍ به صدق عنوان الجاري عليه قطعاً، وحكم عليه بحكم الماء الجاري وقد مرّ تفصيله.

حكم الماء الجاري عند تغيّر البعض

مسألة 8: «إذا تغير بعض الجاري دون بعضه الآخر، فالطرف المتصل بالمادة لا ينجس بالملاقاة وإن كان قليلاً، والطرف الآخر حكمه حكم الراكد إن تغير تمام قطر ذلك البعض المتغير، وإلّا فالمتنجس هو المقدار المتغير فقط؛ لاتصال ما عداه بالمادة».

ذهب المصنّف في المسألة الثامنة إلى أنّ الماء الجاري ينجس كسائر المياه بالتغير. إذا فرضنا تغير بعض الجاري دون بعضه الآخر فهذا يتصوّر على أقسام؛ فإن كان الماء الخارج من المادة غير متغير، وكان الماء المتأخر عنه غير متغيرٍ أيضاً، وأنّ التغير كان حادثاً في السوافل فلا إشكال في انفعال الماء المتغير مادام التغير باقياً، وطهارة ‌الماء المتقدم على المتغير ولو كان الماء المتخلل بين المتغير والمادة قليلاً، وكان عدم تغيره بسبب ضعفه فلا اشكال في اعتصام الماء المتقدم على المتغير والمتصل بالمادة، سواءٌ كان كراً أو قليلاً؛ لأنه متصلٌ بالمادة، وقد جاء في صحيحة ابن بزيعٍ أنّ الماء واسعٌ لاتصاله بالمادة وإن كان قليلاً بحسب الخارج أي «لا يفسده شيءٌ إذا تغيّر» والمفروض في الماء عدم تغير الماء المتقدم على المتغير فهو طاهرٌ بلا تردد.

انما الكلام في حدوث التغير في الماء المتوسط بين ماءين غير متغيرين، كما لو خرج الماء من المادة وفي دربه تغير الماء ولكن لم يطرأ التغير في الماء المتأخر عن المتغير. فقد حكم في العروة بعدم انفعال غير المتغير إن كان قدر كرٍّ وانفعاله إن كان قليلاً، لأنّ الماء المتغير توسط بين الماء القليل وبين المادة. ثمّ لماذا لا يكفي المتوسط في اعتصام ذاك الماء القليل؟

رأي صاحب الجواهر(ره)

وقد نقل عن صاحب الجواهر(ره) انه تأمل في الحكم بنجاسة الماء القليل المتأخر عن المتغير؛ لأنّه يصدق عليه عنوان الجاري ويكون ذا مادةٍ فلا وجه للحكم بانفعاله.

ويمكن أن يقال وجهٌ آخر لعدم الانفعال؛ وبيان ذلك: كان هناك دليلٌ في باب ماء الكرّ دالٌ على أنّ «الماء إذا بلغ قدر كرٍّ لا ينفعل» و مفهوم هذا الدليل يدل على انفعال دون الكر من الماء، والماء الجاري خارجٌ عن هذا المفهوم، فيحكم بعدم انفعاله، وأما لو حدث التغير في بعضه وتوسط المتغير بين الماء القليل المتأخر عنه وبين الماء المتقدم عليه فلا كلام في طهارة الماء المتقدم على المتغيرٍ؛ لأنّه ماءٌ قليلٌ متصلٌ بمادةٍ معتصمة، وأما الماء القليل المتأخر عن المتغير فكان خارجاً عن أدلة الانفعال[1] قبل حدوث التغير في المتوسط؛ لأنّ أدلة  الانفعال خصصت ودلّت على عدم انفعال غير المتغير من الماء المتصل بالمادة وإن كان قليلاً، فهذا الماء المتصل القليل المتأخر كان خارجاً عن أدلة الانفعال قبل وجود المتغير، وأما بعد وجود المتغير نشك في أنّ الماء المتأخر هل خرج عن عموم الدليل[2] الدال على عدم الانفعال ودخل تحت عموم أدلة الانفعال أو لا؟ فإنّ عموم أدلة الانفعال قد خصصت وخرج منه الماء القليل المتصل بالمادة؛ ولذا كان هذا الماء معتصماً قبل وجود المتغير قطعاً، والآن بعد وجود المتغير نستصحب عدم انفعاله ونقول: لم يكن هذا الماء القليل منفعلاً قبل وجود المتغير، والآن بعد وجود المتغير لا يكون منفعلاً أيضاً استصحاباً للحالة السابقة.

التمسك بالاستصحاب في المقام والاشكال عليه

الظاهر انه[3] التزم بصدق الماء الجاري وقد أضفنا إليه وجهاً، وذكرنا انه يجري استصحاب حكم المخصص والمقيد؛ لأنّ مفهوم أخبار الكر مخصصٌ أو مقيدٌ فيجري استصحاب المخصص والمقيد.

لكن لا يتمّ هذا الكلام إذ قرر في البحث الأصولي بأنّه إذا لم يكن للمخصص والمقيد اطلاقٌ في موردٍ فالمرجع هو التمسك بنفس العام والمطلق أي التمسك بالعام المخصص بهذا الخاص أو المطلق المقيّد بهذا القيد.

قوله: «الماء إذا بلغ قدر كرٍ لا ينفعل أي كلّ ماءٍ إذا لم يبلغ كراً ينفعل».

فإذا تغير بعض الجاري وتوسّط الماء المتغير وكان الماء المتأخر عنه قليلاً من دون تغييرٍ فلا دليل على خروج هذا الماء القليل المتأخر عن عموم أدلة الانفعال. نعم، إنّ الماء المتقدم على المتغير خارجٌ عن أدلة الانفعال لما ذكرنا من انه متصلٌ بالمادة، ولكن لا دليل على خروج الماء المتأخر عن المتغير من تحت العموم.

وبعبارةٍ واضحةٍ: قد قرر في بحث الأصول عدم جريان استصحاب حكم المخصص والمقيد في المقام، بل يرجع في تلك الموارد إلى عموم العام أو اطلاق المطلق من دون فرقٍ بين أن يكون حكم العام أو المطلق افرادياً أو استمرارياً. فهذا البحث موكولٌ إلى علم الاصول وبناءً عليه لا يجري الاستصحاب في المقام، بل يرجع إلى المفهوم ويحكم بنجاسة‌ الماء القليل، هذا أولاً.

ثانياً: إذا قلنا لا؛ لا يصح التمسك بهذا العموم أيضاً، حكمنا بانفعال هذا الماء أيضاً؛ لانه إن كان دون الكر تنجس بملاقاته للماء المتغير، والماء المتأخر متصلٌ بالماء المتغير فينجس بالملاقاة لا محالة.

نعم، إنّ الماء المتقدم على المتغير قليلٌ أيضاً لكنه لا ينفعل بالملاقاة؛ لأنه معتصمٌ ومتصلٌ بالمادة. فالماء إذا لم يبلغ قدر كرٍ انفعل بملاقاته لهذا الماء المتغير، وإذا بلغ قدر الكر اعتصم لكريته؛ إذ لا توجد روايةٌ تدل على «أنّ الماء الجاري معتصم».

فلا يوجد دليلٌ معتبرٌ حتى يستند إليه صاحب الجواهر(ره) ويقول إنّ اطلاقه يشمل هذا الماء، بل يتوفر لدينا دليلٌ واحدٌ وهو قوله (عليه السلام): «فإذا تغير فلا يتوضّأ منه».

والحمد لله ربّ العالمين.


[1]– «الماء إذا لم يبلغ قدر كر ينجسه شيء».

[2]– وهو صحيح ابن بزيع.

[3]– المراد هو صاحب الجواهر(ره): …