حکم الماء الجاري (ج 89)

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (89)

قال الامام (علیه السلام) يتنجس ماء‌ الكرّ المتغير، وهذا الدليل أخصّ من النبوي الدال على أنّ «الماء إذا بلغ قدر كرٍّ لم يحمل خبثاً» لأنّ النبوي يشمل مطلق ماء الكرّ، والمخصص يدلّ على تنجس ماء الكرّ الذي حدث فيه التغير، فهذا خاصٌ ومقيدٌ بالنسبة إلى النبوي، وإطلاق المخصص مقدمٌ على إطلاق «لم يحمل» الذي يشمل عدم الحدوث وعدم البقاء معاً؛ ولذلك لا يتمّ شيءٌ من هذين الوجهين.

التمسك بظهور كلمة «حتى» في صحيحة ابن بزيع والجواب عنه

نعم؛ جاء في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيعٍ الواردة في ماء البئر: «ماء البئر واسعٌ لا يفسده شيءٌ إلّا أن يتغير ريحه أو طعمه فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه؛ لأنّ له مادة» وربما يقال إنّ الظاهر دخول كلمة «حتى» على العلة. فعلة الطهارة هي ذهاب الريح وطيب الطعم؛ لأنّ كلمة «حتى» تدخل على العلة في بعض الموارد ويقال: هذه علة، والمقام من هذا القبيل؛ «فينزح حتى يطيب طعمه» فطيب الطعم علةٌ لطهارة الماء.

لكن لا وجه لهذا الاستدلال؛ لأنّ كلمة «حتى» داخلةٌ على الغاية فذهاب الريح وطيب الطعم هو غاية النزح، والعلة مذكورةٌ بعدها كما أنّ المعمول في ماء البئر هو حصول طيب الطعم بالنزح ونبع الماء من المادة، ولكن لماذا يطهر الماء بذهاب الريح وطيب الطعم؟ قلنا إنّ العلة هي وجود المادة: «لأنّ له مادة» إذ البئر متصلٌ بالمادة والمعتصم ـ على ما سيأتي بيانه ـ فيطهر بذلك. فكلمة «حتى» لم تدخل على‌ العلة، وإنما غاية النزح هي طيب الطعم، والنزح علةٌ لطيب الطعم. فطيب الطعم يكشف عن تأثير المادة إذ لا فائدة في الاتصال بالمادة مع بقاء التغير، والماء يبقى على نجاسته مع بقاء التغير، فطيب الطعم مؤشرٌ على تأثير المادة وطهارة الماء بها. فمادة البئر توجب سعة ماء البئر من الجهتين؛ جهة عدم حدوث التنجس فيه، وجهة طهارته بعد زوال التغير.

فماء البئر واسعٌ وليس كالماء الراكد.

هذا كله في أحكام تغير الماء.

فصلٌ في الماء ‌الجاري

«الماء الجاري وهو النابع السائل على وجه الأرض فوقها أو تحتها كالقنوات لا ينجس بملاقاة النجس ما لم يتغير، سواءٌ كان كراً أو أقل، وسواءٌ كان بالفوران أو نحو الرشح، ومثله كل نابعٍ وإن كان واقفاً».

فروع البحث في الماء الجاري؛ القليل والكثير

ما هو المراد من كون الماء جارياً وما هو ملاكه؟

هذا ما أفاده صاحب العروة(ره) في المقام الأول لبيان أحكام الماء الجاري.

المقام الثاني هو ما يختص به الماء الجاري من الأحكام التي تترتب عليه حصراً ولا تترتب على سائر المياه، وقد ذكرنا أنّ مراد صاحب العروة(ره) في هذا البحث هو الاعتصام وعدم الاعتصام ولم يتعرض لجميع الأحكام.

إنّ المشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً هو اعتصام الماء الجاري وعدم انفعاله بملاقاة النجس، سواءٌ كان قليلاً أو كثيراً، وقد ادعىٰ المحقق(ره) الاجماع عليه في المعتبر والتزم العلامة[1] في عدة من كتبه باعتصام الماء الجاري إذا كان كراً. فاعتبر الكرية في الماء الجاري واختار هذا الرأي الشهيد الثاني في المسالك، ومال إليه في الروضة، ونقل عن جملةٍ من المتأخرين أنهم وافقوا العلامة في اعتبار الكرّية في الماء الجاري، ولكنّ المشهور لا يعتبر الكرية.

فلابدّ لنا من البحث في المقامين: الأوّل: ما هو المراد من الماء الجاري؟ ثانياً: هل الحكم باعتصام الماء الجاري بلا فرقٍ بين قليله وكثيره صحيحٌ أو ليس بصحيح؟

المقام الأول: استقصاءٌ في معنى الماء الجاري

يذكر صاحب العروة(ره) تعريفاً للماء الجاري وقد ورد هذا التعريف في كلمات جملةٍ من الفقهاء، وهو النابع على وجه الارض فوقها أو تحتها، ولابدّ أن يتصل بمادةٍ في باطن الأرض ينبع الماء منها ويجري فوق الأرض أو تحتها. إنّ الماء الجاري معتصمٌ لا ينفعل بلا فرقٍ بين قليله وكثيره وبين جريانه فوق الأرض أو تحتها.

ولكن يظهر من كلام المسالك وبعضٍ آخر أنّ «الجاري هو النابع غير البئر جرى أم لم يجر». فالماء النابع بغير قوةٍ ولا شدةٍ ولا كثرة، يعدّ جارياً على الظاهر كما لو اجتمع الماء أطراف المادة ويتواجد ذلك في القرى، لكن كيف يطلق الجاري على هذا النوع من الماء؟ لأنّ الجاري مشتقٌ من الجريان ولا جريان لهذا الماء. قال الشهيد الثاني: «وإطلاق الجريان عليه مطلقاً تغليبٌ أو حقيقةٌ عرفية»[2] أي أنّ إطلاق الجاري على هذا الماء النابع بغير جريانٍ من باب الغلبة إذ الجريان يطرأ في أغلب أفراد النابع ولكنه ليس مقوماً لكون الماء جارياً؛ ولذا اطلق الجاري على الماء النابع من الأرض جرىٰ أم لم يجر. والحمد لله ربّ العالمين.


[1]. قد صرح العلامة (ره) في نهاية الاحكام بما نسب إليه الميرزا التبريزي (ره) حيث قال: ….

[2]. مسالك الافهام، 1 : 12.