بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس (109)
مراد صاحب العروة من دوام النبع
الظاهر أنّ مراد المصنف(ره) من دوام المادة هو كون المادة فعلية، فقد يترسب شيءٌ من ماء المطر إلى باطن الارض، بحيث لو حفرت تلك الارض لترشح الماء منها، ثمّ يقف الرشح بعد استخراج الماء، ولو اريد خروج الماء من المحفور ثانياً، فلابد من حفرٍ جديدٍ لتعميقه بمقدارٍ أزيد ليترشح منها الماء ثانياً، والا فلا يترشح الماء من نفس المقدار المحفور أولاً. فلعلّ مراد المصنف(ره) هو الاحتراز عن المادة الفاقدة للفعلية، وهي التي لا فعلية لها بعد اجتماع الماء في موضع الحفر.
وهذا النوع من المادة يماثل عدم الاتصال بسبب الحيلولة وسقوط التراب، إلّا أنّ الاتصال في المادة الفاقدة للفعلية باقٍ على حاله من دون بقاء المادية في المادة الاولية، ولو أريد تفعيل المادة ثانياً فلابد من حفر أطرافها ثانياً.
فكأنّ مراد المصنف(ره) هو فعلية المادة كما يقتضيه ما فرّعه على اعتبار الدوام بقوله: «فلو اجتمع الماء من المطر أو غيره تحت الارض ويترشح إذا حفرت لا يلحقه حكم الجاري». فالحفر المتخلل بين كل رشحٍ مؤشرٌ على عدم فعلية المادة، وهذا القسم لا تشمله صحيحة محمد بن بزيعٍ فانه ليس من المادة المفروضة في الصحيحة، وهي التي يخرج منها الماء بنزح ماء البئر كما لا يخفى.
قال بعض الفقهاء إنّ «الثمد» ليس في حكم الماء الواجد للمادة، والثمد مصطلحٌ ورد في بعض كلمات الاصحاب ومفردات أهل اللغة، ولعل مراد المصنف هو الثمد ـ والله العالم ـ حيث يجمع ماء المطر فإذا اخذ منه لم يترشح الماء إلّا بعد حفرٍ جديدٍ فيترشح بمقدار، وإذا اخذ منه ذلك المقدار لم يترشح إلّا بعد حفرٍ آخر.
أحكام الماء الجاري
مسأة 5: «لو انقطع الاتصال بالمادة كما لو اجتمع الطين فمنع من النبع كان حكمه حكم الراكد، فإن ازيل الطين لحقه حكم الجاري، وإن لم يخرج من المادة شيءٌ فاللازم مجرد الاتصال».
حكم الماء الجاري عند انقطاعه عن المادة
التزم السيد(ره) في المسألة الخامسة في فصل الماء الجاري، بأنّ حكم الماء المنقطع اتصاله بالمادة حكم الراكد، كما لو حال الطين بين المادة والماء فمنع من النبع، وكذلك لو ازيل الطين وكانت المادة غير قابلةٍ للنبع، وأما إذا ازيل الطين وكانت المادة قابلةً لخروج الماء منها واتصل الماء بها لحقه حكم الجاري، وان لم يخرج من المادة شيءٌ فيحكم باعتصامه لفعلية الاتصال بالمادة وتحققه.
قد أسلفنا أنّ المستفاد من صحيحة محمد بن اسماعيل بن بزيعٍ هو اعتصام الماء الواجد للمادة، بحيث لو اخذ من ذلك الماء حلّ ماءٌ آخر محله، وهذا هو ما أشار إليه السيد في هذه المسألة من أنّ مجرد الاتصال يكفي في الحاق الماء بالجاري واعتصامه وان لم يخرج من المادة شيءٌ لعدم الأخذ من ذلك الماء.
والظاهر أنّ هذه المسألة إعادةٌ لما سبق وعلم حكمها مما سبق.
حكم الماء الراكد المتصل بالجاري
مسألة 6: «الراكد المتصل بالجاري كالجاري، فالحوض المتصل بالنهر بساقيةٍ يلحقه حكمه، وكذا أطراف النهر، وإن كان ماؤها واقفاً».
التزم السيد(ره) في المسألة السادسة بأنّ الماء الواقف المتصل بالجاري في حكم الجاري كالحوض المتصل بالنهر بساقيةٍ، وكذا المياه الواقفة من ماء النهر في أطرافه؛ لأنّ النهر جارٍ، وحكم الواقف اطراف النهر حكم الجاري.
إنّ للماء الجاري ـ على ما سنذكر ـ حكمين: الحكم الاول هو الحكم بالاعتصام فلا ينفعل ولو مع قلته، والحكم الثاني هو كفاية الغسل مرةً في مثل الثوب المتنجس بالبول حيث يكون قابلاً للعصر.
إن المسألة السادسة ـ كما هو الظاهر ـ ناظرةٌ إلى حكم الجاري من حيث الاعتصام؛ لأنّ المستفاد من صحيحة ابن بزيعٍ وروايات ماء الحمام[1] هو اعتصام كلّ ماءٍ قليلٍ متصلٍ بمعتصم، كما أنّ اتصال الماء بالمادة الباطنية تحت الارض يوجب اعتصامه، وكذا الماء المتصل بمعتصمٍ لكريته ولكونه اكراراً أو لكونه جارياً، وقد ذكرنا الوجه في ترتب هذا الحكم على الماء المتصل بالمادة الباطنية تحت الارض وقلنا: إنّه معتصمٌ ولو مع قلته في نفسه.
الحكم الثاني للجاري هو كفاية الغسل في الماء الجاري مرةً إذا كان المغسول قابلاً للعصر، كالثوب المتنجس بالبول، وترتب هذا الحكم على الحوض المتصل بالنهر بساقيةٍ، وإلحاقه بحكم الماء الجاري على الاطلاق ـ كما أفاده ـ محل تأملٍ، وسيأتي أنّ كفاية الغسل مرةً إن كان حكماً مختصاً بالجاري، بحيث كان الغسل مرتين في الكر أيضاً شرطاً معتبراً في حصول الطهارة، كان ترتب جميع احكام الماء الجاري حتى كفاية الغسل مرة، على ماء الحوض القليل المتصل بالجاري أو على ماء الحوض الذي يبلغ كراً، بل اكراراً ويتصل بالجاري بأنبوبٍ أو فرعٍ ويقف الماء فيه بعد امتلائه محل إشكال؛ لعدم صدق الماء الجاري على هذا الحوض عرفاً.
وقد أسلفنا أنّ الجاري يصدق على الماء الجاري الفاقد للمادة الباطنية تحت الارض، كالشطوط والانهار المنهدرة عن ذوبان الثلوج وهطول الامطار، ولكنّ اعتصامها مستمدٌ من كريتها لأنّها فاقدةٌ للمادة الباطنية، ويكفي غسل مثل الثوب المتنجس بالبول فيه مرةً واحدة، إذ يصدق عليها الجاري عرفاً، والاعتصام لا يدور مدار صدق الجريان كما أنّ الماء الواجد للمادة لا ينفعل بالملاقاة، وإن كان واقفاً كالبئر فغسل الثوب المتنجس في ماء البئر لا يوجب انفعاله، ولكنّ المتنجس بالبول يطهر بالغسل مرتين لا مرةً واحدة، وما جاء في صحيحة محمد بن مسلمٍ من كفاية الغسل مرةً فهو مختصٌ بالماء الجاري، وماء البئر ليس بجار، وكذا الحوض الواقف ماؤه ليس بجارٍ وان اتصل بالنهر فيعتبر الغسل مرتين فيه كما يعتبر ذلك في ماء الكر.
نعم، جاء في صحيحة محمد بن مسلم: «إن غسلته في المركن مرتين» وماء المركن ماءٌ قليلٌ راكد، وهذا لا يشمل الحوض المتصل بالمعتصم أو الحوض الذي يبلغ اكراراً؛ لأنه يغاير ماء المركن وليس بقليلٍ إلّا أنّ ذلك لا ينافي اعتبار الغسل مرتين فيه، نقول: يعتبر الغسل مرتين في الماء القليل ويكفي الغسل مرةً في الماء الجاري وفقاً لمدلول الرواية، ولكنها لم تبيّن كيفية الغسل في الماء الراكد المعتصم كماء البئر أو الحوض الواقف؛ إذ لا دلالة في الصحيحة عليها فالمرجع هو التمسك بالاطلاقات الواردة في غسل الثوب المتنجس بالبول حيث قال (عليه السلام): «اغسل الثوب فيه مرتين» إلا أنّ صحيحة محمد بن مسلمٍ قد خصّصت الغسل بالماء الجاري فيكفي الغسل فيه مرةً واحدة، وأما ما عدا الجاري فيبقى تحت الاطلاق فنقول حينئذٍ: هذه الصحيحة واردةٌ في ماء المركن، ولكن غير ماء المركن ليس بجارٍ أيضاً فيعتبر الغسل فيه مرتين أخذاً بالاطلاقات. فصحّ اطلاق ما قاله المصنف من أنّ «الراكد المتصل بالجاري كالجاري» في الحكم بالاعتصام فالراكد المتصل بالجاري معتصمٌ و«الحوض المتصل بالنهر بساقيةٍ يلحقه حكم الجاري» في الاعتصام و«كذا اطراف النهر وإن كان ماؤها واقفاً» لكن لابدّ من التفصيل في حكم الغسل؛ فان كان الماء واقفاً اطراف النهر ومتصلاً بالنهر ـ كما هو المتعارف ـ إذ لا يسري جريان النهر إليه ويتراءى للناظر إليه واقفاً، كفى الغسل فيه مرةً إذ يصدق عليه عنوان الغسل في الماء الجاري فيقال: «غسله في الماء الجاري» وأما ماء الحوض أو الماء البعيد عن النهر الذي يتصل بالجاري من خلال أنبوبٍ ونحوه ويكون ماؤه واقفاً فلا يصدق عليه عنوان الغسل في الماء الجاري فيعتبر الغسل فيه مرتين كما يعتبر ذلك في غير الجاري كما مرّ.
والحاصل أنّ اطلاق التشبيه في كلام المصنف صحيحٌ من حيث الاعتصام. والحمد لله ربّ العالمين.
[1]– رواية واردة في ماء الحمام: …