بسم الله الرحمن الرحيم
البحث الثاني والسّتون
القول باحتمال تنجّس الماء بمطلق التغیّر
الأمر الثاني: تحصّل مما مرّ أنّ الماء ینفعل بتغیّر أحد أوصافه الثلاثة ولا أثر لتغیّره بما عدا أوصافه الثلاثة، کما لو سخن أو ثقل الماء بملاقاة النجاسة، وهناك روایاتٌ یستفاد منها تقیید نجاسة الماء بالتغیّر في الطّعم واللّون والرائحة نحو: «إن تغیّر الطّعم وتغیّر الریح في الماء» إلّا أنّ البعض ادّعیٰ بأنّ هٰذه الروایات تقیّد نجاسة الماء بالقید الغالبي، بمعنی أنّ الماء یتنجّس بتغیّر لونه وریحه وطعمه غالباً، والقید الغالبي لا یصلح لتقیید مطلقات التغیّر. إذ هناك مطلقاتٌ تدلّ علی انفعال الماء بمطلق التغیّر، وقد أشبع الکلام عن القیود في علم الأصول منقّحاً ومستنتجاً منه أنّ القیود الغالبیة لا تقیّد المطلق.
وجه الاشتراك والافتراق في القید الغالبي وغیر الغالبي
إنّ القید الغالبي وغیر الغالبي مشترکان في جهةٍ واحدةٍ وهي ما إذا کان موضوع الحکم في خطابٍ من خطابات الشّرع مقیّداً بالقید الغالبي ولم یکن المطلق موضوع الحکم في خطابٍ آخر، أو لم یوجد هناك خطابٌ آخر أصلاً، بل توفّر خطابٌ واحدٌ مقیّدٌ بالقید الغالبي أو غیر الغالبي، فیلزم العمل بالمقیّد مطلقاً ولا یمکن التعدي عنه. فالشارع إذا ذکر الحکم للمقیّد ولم یذکره للمطلق کان موضوع الحکم هو المقیّد وإن کان قیده غالبیاً.
الفرق بین المقیّد بالقید الغالبي وغیر الغالبي
إن کان هناك خطاب مطلقٌ في مقابل المقیّد وتوفّرت شرائط التقیید من وحدة الحکم أو اختلاف الخطابین في السّلب والإیجاب، فیقیّد المطلق. أما في مورد وحدة الحکم فیقیّد المطلق إن لم یکن القید غالبیاً؛ لأنّ المتکلم ذکر القید في خطابٍ آخر، ولا یعقل أن یکون الحکم الواحد ذا متعلقین فذکر المطلق أولاً ثمّ أجّلّ بیان القید لیذکره في خطابٍ آخر، والجمع العرفي یحصل بالتقیید، کما لو قال المولی في خطاب: «أعتق رقبة» وقال في خطابٍ آخر: «إن أفطرت في نهار شهر رمضان فاعتق رقبةً مؤمنة» فالمراد من المطلق هو المقیّد إلّا أنّ القید مذکورٌ في خطابٍ آخر ولم یکن القید قیداً غالبیاً حسب الفرض.
أمّا في مورد اتفاق الخطابین في السلب والایجاب وعدم وحدة الحکم فیؤخذ بالمطلق والمقیّد معاً لأنّ شرائط التقیید غیر متوفرةٍ کما لو جاء في خطاب: «نهی رسول الله (صلی الله علیه وآله) عن اللّعب بالنرد والشطرنج» وفي خطابٍ آخر «نهی رسول الله (صلی الله علیه وآله) بما یقامر به» من آلات القمار، سواءٌ کانت نرداً أو شطرنجاً أو غیرهما. فالخطابان متوافقان في النهي ولا یتخالفان في جانب السّلب، وعندئذٍ یؤخذ بالمطلق وبالمقیّد لعدم توفّر شرائط التقیید.
أما في مورد اختلاف الخطابین في السّلب والایجاب فیقیّد المطلق کما لو جاء في خطاب: «نهی رسول الله (صلی الله علیه وآله) عن اللّعب بالنّرد والشطرنج» وفي خطابٍ آخر: «لا بأس باللّعب بما یقامر به إذا لم یکن رهن» فیدخل في عنوان القمار، إذا کان عوضاً. فالخطابان متخالفان في السّلب والایجاب، أحدهما نهيٌ والآخر ینفي البأس، وعندئذٍ یلتزم بالتقیید ویحمل نفي البأس علی غیر النّرد والشّطرنج. هٰذا هو قانون الإطلاق والتقیید.
ولابدّ من إحراز أحد الأمرین في موارد حمل الخطاب المطلق علی الخطاب المقیّد. فإن کان الخطابان متّحدین في الحکم کما في عتق الرّقبة ووجوب کفارةٍ واحدة، فیحمل المطلق علی المقیّد، وإن لم یتّحدا في الحکم، بل کان الحکم انحلالیاً واختلفا في الایجاب والسّلب فیحمل المطلق علی المقیّد أیضاً، وإن اتحدا في الحکم من حیث الایجاب والسلب اخذ بکلا الخطابین؛ الخطاب المطلق والخطاب المقید.
ثمّ إنّ الفرق بین القید الغالبي وغیر الغالبي یظهر فیما إذا کان في مقابل المقیّد خطاب مطلقٌ وتوفّرت شرائط التقیید فیقیّد المطلق بأحد الأمرین اللّذین سبق ذکرهما بشرط کون القید غیر غالبي.
فلو أطلق موضوع الحکم ومتعلق الحکم في خطابٍ وقیّد موضوع الحکم ومتعلق الحکم في خطابٍ آخر بالقید الغالبي ٱستکشف منه أنّ المراد من المطلق، لیس هو المقیّد، بل یبقی المطلق في إطلاقه، وحیث إنّ القید کان محل الابتلاء جيء به في خطابٍ آخر، ولا یصلح ذٰلك لتقیید إطلاق المطلق.
فتلخص أنّ الفرق بین القید الغالبي وغیر الغالبي یظهر في تقیید المطلق في موارد وحدة الحکم وعدم کون القید غالبیاً نحو: «أعتق رقبة» و «أعتق رقبةً مؤمنة» وعدم تقیید المطلق في موارد القیود الغالبية والحکم بالعمل بالخطاب المطلق.
وعلی هٰذا الأساس ربّما یتوّهم أنّ تقیید التغیّر «بالطّعم والرائحة» في الروایات و«باللّون» في بعض الروایات، تقییدٌ بالقید الغالبي فیتعیّن الأخذ بإطلاق روایاتٍ اخریٰ دالةٍ علی تنجّس الماء بمطلق التغیّر: «الماء إذا تغیّر تنجّس». فهناك خطابٌ واردٌ في التغیّر المقیّد بالأوصاف وخطابٌ واردٌ في مطلق التغیّر فیؤخذ بالخطاب المطلق في تغیّر الأوصاف استناداً إلیٰ غالبیة القید في الخطاب المقید.
وصفوة الجواب: أولاً لم یوجد خطابٌ یدلّ علی أنّ مطلق التغیّر موجبٌ لتنجّس الماء؛ ولذٰلك ذکرنا في الاستدلال بصحیحة حریزٍ أنّ تغیّر الماء في قوله (علیه السلام): «فإذا تغیّر الماء وتغیّر الطّعم» مطلقٌ إلّا أنّه تفریعٌ لما قبله وهو «کلّما غلب الماء علی ریح الجیفة فتوضّأ منه وٱشرب فإذا تغیّر الماء» أي «فإذا تغیّر ریح الماء»، لأنّ المفروض في السؤال هو الجیفة، والجیفة تغیّر الریح «وتغیّر الطّعم فلا تتوضّأ منه ولا تشرب». والحمد لله ربّ العالمین.