الماء المطلق والمضاف (ج 2)

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الثاني

في الماء المطلق والماء ‌المضاف قائلاً:

علم اللغة يعيّن موارد الاستعمال،  (هو أنّ اللغة تعيّن العلامة الوضعية بين اللفظ والمعنى يكکشف عن موارد الاستعمال)، واللغوي ينقل أيضاً موارد الاستعمال (هو ما يبحث فيه اللغوي عن علامة اللفظ بالمعنى وموارد استعماله فيه)، أما المعنى الحقيقي (أي ما هو المراد من ظاهر اللفظ وإذا ذكر بلا قيدٍ، (هل المراد منه المعنى الأوسع أو المعنى الأضيق للفظ، لتشخيص المراد نرجع فيه إلى أهل اللسان[1] إن كانوا هم العرب دون غير العرب.

فالارتكاز يحكم بعدم صحة اطلاق الماء مجرداً عن القيد على ماء البرتقال وماء الانف (الرشح) وماء الفم (البصاق) واطلاقه هنا يكون من باب العناية والتجوّز.

وعلى هذا الاساس فنقول في اطلاق الماء على المضاف لابد من:

أولاً: يجب تقيید المضاف (كماء الرمان وماء البرتقال).

وثانياً: أن يكون استعمال الماء بلا قيدٍ للمضاف من باب العناية والتجوز.

(أقول[2]: ربما يخطر على بال البعض بأنّ المرحوم الميرزا التبريزي قد أشار إلى موارد اللغة والاستعمال اللغوي، ثمّ أحال المناط في المعنى الحقيقي على أهل اللّسان. لكن يظهر من هذا الكلام بأنّ مراده(ره) هو أنّ اللغوي يفرد بالذكر موارد الاستعمال التي تعمّ الحقيقة والمجاز، وربما يأتي اللفظ الواحد بمعانٍ عديدةٍ ويكون تعيين المعنى الحقيقي بالاستعمال فيختص بأهل اللسان، بمعنى أنّ أهل اللّسان هم الذين يعيّنون بأنّ اللفظ استعمل في المعنى الحقيقي أو المعنى المجازي. فعلى هذا الأساس وبناءً على المعنى المرتكز، فإنّ الماء المطلق هو ما يصح اطلاق الماء عليه بلا قيدٍ أي يصح الاطلاق وتطبيق المعنى المرتكز من لفظ الماء عليه مجرداً عن أي قيدٍ. فهذا الماء هو الماء المطلق، والمناط في الماء المضاف هو عدم صحة تطبيقه بلا قيدٍ على الماء إلّا بنحو التجوز والعناية).

ويظهر من كلام العلماء أنّ إطلاق الماء على أقسام الماء المضاف هو من المجاز. فإطلاق الماء وارادة ماء البرتقال منه استعمالٌ مجازي. فإن أطلق الانسان لفظ الماء وأراد منه ماء البرتقال أو طبّق المعنى المرتكز من الماء على ماء البرتقال فالأول مجازٌ في الكلمة[3] إذا اريد ماء البرتقال من لفظ الماء، والثاني مجازٌ في الاسناد[4] بمعنى أنّ استعمال لفظ الماء في نفس المعنى المرتكز وتطبيقه على ماء البرتقال، مجازٌ في الإسناد.[5]

(أقول: الماء في ماء الرمان من المجاز في الكلمة أي لا يشمل معنى الماء، ماء الرمان. فالاستعمال هنا في غير الموضوع له، ولو استعمل فيه فهو من المجاز في الاسناد أي أنّ الماء قد استعمل في معناه وهو الماء المطلق، ولكن طبقّ على ماء الرمان وأسند إليه في مقام التطبيق).

إذا اطلق الماء على الوحل واريد منه المركب[6] من الماء والتراب فهو مجازٌ، ولو طبق المعنى المرتكز على المركب فهو مجازٌ أيضاً. أمّا لو قيل: «الوحلٌ، ماءٌ وتراب» فلا ضير في اطلاق الماء المطلق على جزءٍ منه كما يقال للماء المالح: ماءٌ وملح؛ لأنّ تطبيق المعنى المرتكز على الجزء حقيقيٌ. هذا الاطلاق اطلاقٌ حقيقي، والمجاز هو الذي أشرنا إليه آنفاً.

فإطلاق لفظ الماء بلا قيدٍ على بعض اقسام الماء صحيحٌ، واطلاقه بلا قيدٍ على البعض الآخر ليس بصحيحٍ كما في موارد الماء المضاف، وان شئتم مثالاً فلاحظوا لفظ الذهب. يطلق الذهب مقيداً بصفة الأبيض على‌الذهب الأبيض والذي يسمىٰ بالبلاتين عند الناس، ويقال له الذهب الأبيض. فيضاف قيد الابيض إلى الذهب. اما اطلاق الذهب بلا قيدٍ فلا يشمل البلاتين، بل يقصد به الذهب الاصفر المتعارف لدى الناس، اما الذهب مقيداً فيطلق على البلاتين.

وفي هذا الاطار، تلك الاحكام المترتبة على عنوان مطلق الذهب لا تسري إلى البلاتين ـ ‌الذهب الأبيض ـ بل تلك الاحكام تختص بالذهب المتعارف (الذهب الأصفر). كما أنّ حرمة لبس الذهب للرجال لا تترتب على‌لبس الذهب الأبيض. الذهب الأصفر في الصلاة يوجب بطلانها دون الذهب الأبيض. لأنّ استعمال الذهب بلا قيدٍ لا يشمل الذهب الابيض ـ البلاتين ـ. وأيضاً وجوب الزكاة يختص بالذهب الاصفر المتعارف دون الذهب الأبيض. لأنّ إطلاق الذهب الابيض (البلاتين) عند العرف يماثل اطلاق الذهب الأسود على النفط. فكما يطلق الذهب الأسود على النفط، وهذا الأطلاق مجازيٌ وليس بحقيقي، فالبلاتين أيضاً مادةٌ اخرىٰ وجوهرٌ آخر ومعدنٌ آخر يختلف تماماً عن المعدن الذي يطلق عليه الذهب.

(جعفر التبريزي: أود الإشارة إلى موضوعٍ وهو أنّ المرحوم الميرزا التبريزي(ره) ألقىٰ هذا البحث في زمانٍ لم يوجد في السوق سوى الذهب الأصفر والبلاتين (الذهب الابيض) ولكن بعد مضي مدةٍ من الزمن انتجت في سوق الذهب انواعاً من الذهب الأبيض وهي تصاغ من معدن الذّهب الأصفر وتختلف عن البلاتين. فحالياً يطلق الذهب على الذهب الأصفر والأبيض، ولا يتبادر البلاتين من الذهب الأبيض. فهذا يدلنا على أنّ مراده(ره) من الذهب الابيض هو البلاتين فقط. ولكن حسب احدى التعليقات المعاصرة، أصبح الذهب الابيض هو نفس الذهب الاصفر، ولا فرق بينهما عند الإطلاق).

ثمّ إنّ الاحكام التي رتبها الشارع على ‌عنوان مطلق الماء تختص بالمياه المطلقة ولا تشمل المياه المضافة وبناءً عليه يقول صاحب العروة(ره) ـ في بداية نفس الفصل بعد بيان أقسام الماء ‌المطلق ـ: «وكلّ واحدٍ منها مع عدم ملاقاة النجاسة طاهرٌ مطهرٌ من الحدث والخبث».

هذا حكم الماء المطلق بجميع أقسامه ولا يجري في الماء المضاف لأنّ الماء المضاف غير مطهر من الحدث ولا من الخبث. فالطاهرية والمطهرية حكمٌ يختص بجميع المياه المطلقة.

الأقسام الستة للماء المطلق

«والمطلق أقسامٌ: الجاري، والنابع غير الجاري، والبئر، والمطر، والكرّ، والقليل، وكلّ واحدٍ منها مع عدم ملاقاة النجاسة طاهرٌ مطهرٌ من الحدث والخبث»[7].

فبذكر صاحب العروة(ره) للماء المطلق ستة ‌أقسامٍ، والماء المطلق هو: «ما يطلق عليه اسم الماء بلا قيدٍ وبلا عناية»[8]:

1- الماء الجاري 2- النابع غير الجاري 3- ماء البئر 4- ماء المطر 5- ماء الكر 6- الماء ‌القليل.

المناط في تقسيم الماء‌ إلى ستة ‌أقسام.

بأيّ اعتبارٍ قسّم الماء ‌المطلق إلى ستة ‌اقسام؟ ظاهر التقسيم يومئ إلى اعتبار الاختلاف في الاحكام. نعم، جميع المياه المطلقة لها حكمٌ واحد، و«كلّها طاهرٌ ومطهرٌ من الحدث والخبث» إلّا انّ كلّ قسمٍ منها له حكمٌ خاصٌ به، أو قيل بأنّ كلّ قسمٍ له حكمٌ خاصٌ به ما عدا الحكم المشترك المتعلق بالجميع، كماء البئر. وسيأتي أنّ ماء ‌البئر والماء الجاري لا يختلفان في الحكم وهو عدم الانفعال، ولكنّ المشهور التزموا بحكمٍ خاصٍ لماء ‌البئر، وقالوا: «ماء البئر لا ينفعل بملاقاة النجاسة». فعدّوه قسماً من المياه. فلماء المطر أيضاً حكمٌ خاصٌ به. فهو(ره) ذكر هذه الاقسام الستة‌ بناءً على اعتبار الاختلاف في الاحكام.

أمّا إذا كان التقسيم باعتبار الحكم فكان ينبغي لصاحب العروة(ره) أن يحذف النابع غير الجاري، ويكتفي بذكر خمسة اقسامٍ للماء؛ لأنّ النابع غير الجاري والجاري لا يختلفان في الحكم وهو(ره) يصرح بأنّ: «النابع غير الجاري بمنزلة الجاري». فالحكم المترتب على الجاري يجري على النابع غير الجاري. والنابع غير الجاري ينبع من الأرض ولا يسيل على سطح الأرض لضعف الماء، فيقف على سطح الأرض ويسمى ببولاغ[9]. هذا هو النابع غير الجاري (العين) يقف ماؤه ولا يسيل ورغم ذلك يترتب عليه حكم الجاري. فكان على صاحب العروة(ره) أن يسقطه بناءً على ما ذكرناه.

ربما يحتج أحدٌ على صاحب العروة(ره) بأنّ: الإلحاق في الحكم لا يوجب تساوي الماء النابع غير الجاري مع الجاري حقيقةً، بمعنى انّ الاشتراك في الحكم لا يلزمه تساويهما لانّ النابع غير الجاري لا يدخل تحت عنوان الجاري. فهو(ره) ذكر النابع غير الجاري قسماً مستقلاً في مقابل الجاري رغم كون حكمهما حكماً واحداً. والحمد لله ربّ العالمين.


[1]. المراد من أهل اللسان هم أهل اللغة فالبحث عن المعنى الحقيقي في لغةٍ يرجعنا إلى أهل اللسان والناطقين بتلك اللغة.

[2]. كلما ذكرت في العبارة أقول المراد تعليقي على كلام التبريزي(ره).

[3]. أقسام المجاز: المجازٌ في الكلمة، المجاز في الاسناد،‌المجاز في الحذف، ‌المجاز عند السكاكي.

    الف ـ المجاز في الكلمة: وهو استعمال اللفظ في غير معناه الحقيقي لعلاقةٍ بين المعنى الحقيقي، والمعنى المجازي مع قرينةٍ مانعةٍ من ارادة المعنى الموضوع له كاستعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع.

    ب ـ المجاز في الاسناد: ويقال له المجاز المركب، وهو يجري في الاسناد بمعنى أن يكون الاسناد إلى غير من هو له مثل: (أنبت الربيع البقل) فإنّ المنبت هو الله سبحانه وإسناد النبات إلى الربيع مجازيٌ أو عقليٌ بتعبير آخر، ويتم ذلك بوجود علاقةٍ مع قرينةٍ مانعةٍ من جريان الاسناد إلى من هو له.

ج ـ المجاز في الحذف: توصف الكلمة أحياناً بالمجاز لنقلها من إعرابها الأصلي إلى غيره لحذف لفظٍ مأخوذٍ بالتقدير. فلو حذفت لفظة أهل من (واسأل أهل القرية) وقيل (واسأل القرية) فهو مجازٌ في الحذف أو مجازٌ الحذف. إذن اعراب القرية في الاصل هو الجر، فحذف المضاف وأعطي المضاف إليه إعرابه.

د ـ المجاز عند السكاكي: هو استعمال اللفظ في ما وضع له بادعاء ان المورد من مصاديق الموضوع له ويسمىٰ بالحقيقة الادعائية. مثلاً اننا نشبّه الرجل الشجاع بالأسد من حيث الشجاعة ثم نبالغ في تشبيهه حتى ندخل المشبّه في المشبه به ادعاءً فيصبح للأسد فردان؛ فردٌ متعارفٌ وهو الحيوان المفترس، وفردٌ غير متعارفٍ وهو الرجل الشجاع، فاستعمال لفظة الأسد في الرجل الشجاع ليس استعمالاً مجازياً عند السكاكي، بل هو استعمالٌ حقيقي. كل ما هنالك أنه حقيقةٌ ادعائية.

[4]. مثل «جرى الميزاب» وهنا الاسناد إلى الميزاب مجازيٌ، لأنّ الجري صفةٌ واقعيةٌ للماء لا للميزاب.

[5]. كما في «جرى الميزاب» فإن إسناد الجري إلى الميزاب مجازئٌ؛ لأن الجري يصدق على الماء حقيقةً لا على الميزاب.

[6]. اطلاق الماء على ‌المركب من الماء والتراب، اطلاقٌ مجازي.

[7]. السيد محمد كاظم اليزدي، ‌العروة الوثقىٰ، ج1 ص26.

[8]. السيد محمد كاظم اليزدي، العروة الوثقىٰ، ج1 ص26.

[9]. أي العين.