بسم الله الرحمن الرحيم
البحث السادس
عدم دلالة الآیة المباركة: (وأنزلنا من السّماء ماءً طهوراً) علی طهوریة مطلق الماء
أجاب صاحب الحدائق(ره) عن الاشكال الثاني، وهو النكرة في مقام الاثبات: بأنّ المراد من الماء هنا جنس الماء. وبهذا البيان يجاوب عن الاشكال: إنّ المراد في الآیة المباركة هو جنس الماء قطعاً، ولا احتمال لارادة النكرة من الماء. فالطهور هو جنس الماء، ولكن لا یستفاد من الآیة المباركة. أنّ جنس الماء علی اطلاقه طهورٌ لأنها لیست في مقام بیان حكم الماء. بل في مقام بیان نفس الماء الذي أنعمه الله على البشر، وخلق الله الماء طهوراً أي في مقام بیان أنعم الله لا في مقام بیان الحكم الشرعي للماء.
ومن مقدمات الحكمة[1] في علم الأصول هو كون المولی في مقام بیان الحكم.
وإذا كانت الآیة المباركة في مقام بیان الحكم فنلتزم بأنّها تكون في مقام بیان أمرین، أحدهما: النعم الالهیة والثاني: هو حكم الطهوریة الشرعي للماء، ولكن ظاهر الآیة الشریفة لیس في مقام بیان الحكم الشرعي.
الآیة الشریفة: (وأنزلنا من السّماء ماءً طهوراً) تماثل الآیة الشریفة: (و أنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ)[2]. والبأس الشدید لیس حكماً شرعیاً. ولو كانت هذه الآیة الشریفة «وأنزلنا» في مقام بیان الحكم الشرعي لقال الله تعالی: (وأنزلنا الماء وهو طهورٌ). فكنا نفهم الحكم الشرعي للماء من «وهو طهور» لكنّ ظاهر الآیة الشریفة هو أنّ الطهور وصفٌ للماء مفروغ عنه، كما هو ظاهره والآیة تصف الماء بالطهور تفضلاً علی العباد. فظاهر الآیة (وأنزلنا من السّماء ماءً طهوراً)[3] إنزال ماءٍ طهورٍ یتنعم به العباد. أما هل الماء طهور مطلقاً أو مقیداً فالآیة لیست في مقام بیانه. ربما یكون الماء مقیداً بالكر كما هو كذلك. فالماء إذا تنجس فلا یطهره الماء القلیل، بل یطهره ماء الكر. إذن مع غضّ النظر عن الادلة الخارجیة لا تدل الآیة المباركة بحدّ ذاتها علی طهوریة الاقسام الستة التي ذكرها صاحب العروة(ره) للماء المطلق، وهي: الجاري، والنابع غیر الجاري، والمطر، والبئر، والقلیل، والكثیر. لانّ الآیة الشریفة لیست في مقام بیان حكم الماء، وإن كان المراد من الماء جنس الماء. فاذا ترتب الحكم علی الجنس وكان المطلق في مقام بیان الحكم فیصح التمسك بالاطلاق، واما إذا لم یكن المطلق في مقام بیان الحكم فلا یجوز التمسك بالاطلاق. ومحل الكلام كذلك. فالآیة الشریفة (وأنزلنا من السّماء ماءً طهوراً) لیست في مقام بیان الحكم الشرعي للماء وهو طهورية الماء فلا یجوز التمسك بإطلاقها.
فكون الماء طهوراً أي مطهراً من الحدث والخبث وهو الطهور بالمعنی الشرعي شاملٌ لجمیع أقسام المیاه وأقسام المیاه النازلة من السماء بلا قید. والماء علی اطلاقه ـ سواءٌ كان قلیلاً أو كثیراً ـ مطهرٌ من الحدث والخبث، ولكن لا یستفاد هذا الحكم من الآیة لانّ الآیة تقول: كلّ ماءٍ مطهرٌ من الحدث والخبث. لكن هل هو مقیدٌ ببلوغه حد الكر أم لا؟ فالآیة لیست في مقام بیان هذا الحكم، وحینئذٍ لا یصح التمسك بالاطلاق:
إشكال فقد الشرط للتمسك بالاطلاق
اثبات حكمٍ لموضوعٍ غیر مقیدٍ یحتاج إلی مقدمات الحكمة أي لابدّ أن یكون المولی في مقام بیان الحكم حتی نثبت بأنّ الحكم مجعولٌ للطبیعة. لانّ المولی إذا كان في مقام بیان الحكم وكان بإمكانه أن یذكر القید ولم یذكره فیعلم من ذلك انّ الحكم مترتبٌ علی الطبیعة. اذن لا تجري مقدمات الحكمة فیما نحن فیه: (وأنزلنا من السّماء…) لانّ الله تعالیٰ لیس في مقام بیان أنّ الماء مطهرٌ من الحدث والخبث، بل هو في مقام بیان التفضل علی العباد وانعامه عليهم، وأنه انزل من السماء ماءً طهوراً. والطهور وصفٌ للماء. وذكر هذا الوصف في الآیة والتمسك بإطلاق الآیة، یحتاج الی مقدمات الحكمة، ولكن لا تجري مقدمات الحكمة هنا، لانّ الآیة لیست في مقام البیان، فلا یجوز التمسك بالاطلاق. والعمدة هنا هذا الاشكال. فعلی هذا الاساس الآیة الشریفة تشمل جمیع المیاه وتحكم بطهوریتها، وهل تحكم بها علی الاطلاق أو مقیداً ببلوغها حدّ الكر أم لا؟ لا اطلاق للآیة المباركة من هذه الجهة.
ملخص الكلام في هذا المقام هو أنّ الاشكال الاول قد أجیب عنه، ولكنّ تعميم الماء بمعنی أنّ كلّ ماءٍ في أیة حالٍ مطهرٌ من الحدث والخبث فلا تدل الآیة علی هذه الجهة وعلی الاطلاق بنفسه.
الاشكال الثالث لصاحب الحدائق(ره)) وهو أنّ الطهور هنا صیغةٌ للمبالغة، ومبدأها لازم، فالمبالغة فیه لازمةٌ لا متعدیة. فإذن الطهور یفید المبالغة في الطهر. (وأنزلنا من السّماء ماءً طهوراً) أي أنزلنا من السماء ماءً في غایة الطهر وشدته، وعلیه فلا دلالة لها علی كون الماء مطهراً من الحدث والخبث.
اجاب صاحب الحدائق عن الاشكال الثالث: هو عدم دلالة الطهور في الآیة الشریفة علی المبالغة، لو سلّمنا بأنّ ظهور صیغة المبالغة فیما إذا كان مبدأها لازماً یقتضي بأن تكون المبالغة في المبدأ لازمةً لا متعدیة، لكن لا نسلم بأنّ الطهور هنا ظاهرٌ في المبالغة في الطهر. ثمّ ما معنی المبالغة في الطهر؟ معناها أنّ كلّ شيءٍ في الاصل طاهرٌ. وانّ كان الطهور هنا بمعنی الطاهر فلا یختص حینئذٍ بالماء. لأنّ النجاسات محددةٌ بأمورٍ معینةٍ أولاً، وثانیاً لا یطلق الطّهور علی الخشب والثوب والفراش وغیرها، مع أنّها طاهرةٌ. فیعلم منه أنّ الطهور لیس بمعنی الطاهر والطهور لیس من صیغ المبالغة هنا. والحمد لله رب العالمین.
[1] . مقدمات الحكمة هي القرائن العامة لاثبات شمول المطلق لكل افراده. التعریف: ان الالفاظ المطلقة وضعت للماهیة المهملة (اللابشرط المقسمی) ولا «للماهیة المطلقة بقید الاطلاق» (اللابشرط القسمي) وان الشیاع والسربان كسائر الطوارئ یكون خارجا عما وضع له فلابد من القرینة علی اثبات الاطلاق من قرینة خاصة او عامة. القرینة الخاصة اما حالیة او مقالیة. القرینة العامة هي قرینة تفید لاثبات الاطلاق في المطلقات بأسرها وهي التی تسمی بمقدمات الحكمة والمراد منها توفر شروط دالة علی شمول المطلق لافراده.
اختلف الاصولیون في عدد هذه الشروط. ثلاثة عند المشهور وخمسة عند الاخرین. مقدمات الحكمة هی عبارة عن: 1- كون المتكلم في مقام بیان تمام المراد لا الاهمال او الاجمال او الهزل وعدم كونه غافلاً 2- انتفاء ما یوجب التعیین من قرینة متصله او منفصلة تدل علی التقیید في الكلام لان القرینة المتصلة كـ «اعتق رقبة مومنة» تمنع من ظهور الكلا في الاطلاق والقرینة المتصلة وان لم تمنع من انعقاد ظهور الكلام الا انها تمنع الحجیّة. 3- امكان الاطلاق والتقیید ای یكون اللفظ قابلا للانقسام الی المطلق والمقید مع قطع النظر عن تعلق الحكم به وبعبارة اخری ان یكون اللفظ صالحاً للاستعمال في المطلق تارة وفي المقید اخریٰ. 4- عدم وجود القدر المتیقن في مقام التخاطب كما ذكرها الاخوند(ره) في كفایة الاصول. والمراد بالقدر المتیقن في مقام التخاطب هو كون الكلام والمخاطب بحیث یفهم القدر المتیقن من تعلق الحكم بالافراد وان افرادا معینة او اصنافا او انواعاً خاصة متعلقة للحكم قطعاً وحینئذٍ لو امر المتكلم بنحو مطلق فلا یجوز التمسك بالاطلاق. كما لو تحدث المولی لعبده عن فوائد لحم الغنم ثم اشتقا وقال له: اشتر اللحم. فان القدر المتیقن هنا هو لحم الغنم. 5- عدم الانصراف: اشتهر بین العلماء ان الانصراف مانع عن التمسك باطلاق الكلام وان توفر سائر مقدمات الحكمة في الكلام كما لو قال المولی: اكرم العالم. فان لفظ العالم ینصرف الی العام في الدین لا ای عالم كان ما كان.
[2] . سورة الحدید (57)، آیة 25.
[3] . سورة الفرقان (25)، آیة 48.