الماء المجهول اتصاله بالمادَّة (ج 106)

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (106)

الماء المجهول اتصاله وانقطاعه من حيث المادة

نعم، هناك صورةٌ اخرى في المقام، وهي ما إذا انتقضت الحالة الاولية الموجودة في جميع المياه، وهي عدم المادة في ماء، وكان هذا الماء مسبوقاً بحالتين عارضتين، وهما الاتصال بالمادة في زمان، والانقطاع عنها في زمانٍ آخر، واشتبه المتقدم منهما بالمتأخر للشك في التقدم والتأخر.

فلا نعلم أنّ الماء هل كان متصلاً بالمادة ثمّ حصل الانقطاع عنها ثانياً ومتأخراً، أو كان الانقطاع عن المادة مقدماً و مستمراً ثمّ حصل الاتصال بالمادة فتعاقبت الحالتان.

قد يقال في المقام: إنّ الماء كانت له مادةٌ في زمان، والآن نشك في بقاء اتصاله بالمادة، واستصحاب بقاء المادة يتعارض مع استصحاب انقطاع الماء عن المادة إذ الماء كان منقطعاً عن المادة في زمانٍ أيضاً، ومسلك الشيخ(ره) في مجهولي التاريخ هو تعارض الاستصحابين وتساقطهما، خلافاً لما ذهب إليه الآخوند وبعض من تبعه من عدم جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ وان لم يتعارض الاستصحابان، وذلك لعدم احراز اتصال الشك باليقين مع أنّ إحراز الاتصال شرطٌ في جريان الاستصحاب.

وعلى كلا التقديرين، هذان الاستصحابان إما يتعارضان، وإما لا يجريان، وتتصوّر هذه الحالة في المياه المستخدمة في زماننا هذا، كما لو كان الماء الجاري في الأنبوب منقطعاً في زمانٍ ومتصلاً في زمان، والآن لا يعلم المتقدم والمتأخر منهما. فتأخر الانقطاع يوجب استصحاب بقاء الانقطاع، وتأخر الاتصال يوجب استصحاب بقاء الاتصال، وهذان الاستصحابان في المقام إما يتعارضان، وإما لا يجريان فيرجع إلى قاعدة الطهارة، لانا نشك في أنّ الماء هل يتنجس بملاقاته للنجس أم لا؟ ولم نحرز عدم المادة حتى نحكم بنجاسته؛ إذ الخارج من الدليل الدال على انفعال الماء القليل هو الماء القليل الواجد للمادة، ونحتمل وجود المادة له ولم يكن بمقدورنا نفي المادة بالاستصحاب لابتلائه بالمعارض أو عدم جريانه من الأصل، ولا نتمكن من الحكم بالنجاسة من منطلق إحراز موضوع التنجس. فنشك هل هو طاهر أو لا؟ والمرجع هو قاعدة الطهارة والحكم بطهارة الماء.

ويتم هذا الاستدلال فيما إذا علمنا بانتقاض الحالة ‌السابقة الشاملة لجميع المياه في هذا الماء، حيث كانت لهذا الماء مادةٌ متصلةٌ به في زمانٍ وعلمنا بانقطاع الماء عن مادته في زمان، كما يحدث ذلك في مياه الانابيب المتعارفة عندنا وان كانت مادتها كمادة ماء الحمام والمخزن، والآن لا نعلم أنّ المتأخر كان هو الانقطاع حتى نستصحب الانقطاع أو كان المتأخر هو الاتصال حتى نستصحب الاتصال، وتعاقب الحالتين إما يوجب تعارض الاستصحابين، واما يمنع من جريان الاستصحاب من أصله (لا يهمنا ذلك هنا) فيرجع إلى قاعدة الطهارة ويحكم بطهارة الماء.

عدم تنجس الماء بالنظر إلى عدم العلم بكونه ذا مادةٍ فعلاً

إذا غسلنا متنجساً في الماء القليل، كغسل ثوبٍ متنجسٍ أو يدٍ قذرةٍ فيه، ولم نعلم انه ذو مادةٍ فعلاً أو غير متصلٍ بها حكم بطهارة نفس الماء، لكن ما هو حكم الثوب المغسول أو اليد المغسولة فيه؟ لا سبيل إلى الحكم بالطهارة في المغسول به، بل يجري فيه استصحاب بقاء النجاسة… كان الثوب متنجساً أو كانت اليد متنجسةً قبل الغسل بالماء والآن كما كان.

لا نعلم أنّ هذا الشيء غسل بماءٍ طاهرٍ أو لم يغسل بماء طاهرٍ، وقاعدة الطهارة تحكم بطهارة الماء، ولابد أن يكون الغسل بالماء الطاهر غسلاً بالماء الواجد للمادة؛ لانا إذا اعتبرنا في تطهير المتنجس بالماء القليل ورود الماء القليل على المتنجس كشرطٍ لحصول الطهارة (كما سيأتي تفصيله) تعيّن وروده عليه. وقد حصل عكس ذلك في المقام وتمّ الغسل بورود المتنجس على الماء.

نعم، إذا كان الماء، قليلاً ذا مادةٍ أو جارياً أو كراً طهر المتنجس بوروده عليه؛ لأنّ الغسل بالورود على الماء لا يطهّر الثوب المتنجس أو اليد القذرة إلّا إذا كان الماء معتصماً، والاعتصام يتحقق باتصال القليل بالمادة أو بالكر، وحيث لم يحرز الاتصال حكم ببقاء نجاسة الثوب أو اليد، فالاصل هو عدم الغسل بالماء المعتصم؛ إذ لم يكن المتنجس مغسولاً بالماء المعتصم سابقاً والآن نحتمل عدم غسله بماءٍ له مادةٌ فتستصحب النجاسة في الثوب أو اليد ويحكم بطهارة الماء.

جواز التفكيك بين المتلازمين في الواقع

والدليل على هذه المسألة هو ما ثبت في الأصول العملية من جواز التفكيك بين المتلازمين في الواقع. لو كان الماء طاهراً لطهر الثوب واليد، ولو بقي اليد والثوب في النجاسة لانفعل الماء أيضاً، هذان متلازمان في الواقع ولكنّ الاصول تقتضي التفكيك بين المتلازمين الواقعيين. فأصل الطهارة يقتضي طهارة الماء، وأصل الاستصحاب يقتضي بقاء الثوب واليد على النجاسة.

نعم، يحكم بطهارة الثوب واليد أيضاً فيما إذا التزمنا في باب تطهير المتنجسات بعدم اعتبار ورود الماء على المتنجس ذاتا عند غسل المتنجس بالماء القليل، وقلنا إنّ اعتبار الورود مختصٌ بما إذا تنجس الماء بورود المتنجس عليه، وحينئذٍ لا يعتبر في التطهير بالماء القليل ورود الماء على المتنجس بنحو الاطلاق، بل يقيد اعتبار ورود الماء بصورة تنجس الماء عند ورود المتنجس عليه، فهذا الفرض وهو تنجس الماء المورود يوجب اعتبار ورود الماء على المتنجس، ومن ثمّ يحكم بطهارة الثوب واليد كما يكون الماء محكوماً بالطهارة؛ لأنّ قاعدة الطهارة تحكم بطهارة ‌الماء وعدم انفعاله بورود المتنجس عليه فلا يعتبر ورود الماء على المتنجس في المقام؛ لأنّ ورود المتنجس على ‌الماء لا يوجب الحكم بنجاسة ‌الماء في هذه الصورة، ولم يقيد غسل الثوب في بعض الاخبار بمرتين فنتمسك بالاطلاق ونلتزم بتحقق الغسل، سواءٌ كان الماء وارداً أو موروداً. نعم، یعتبر ورود الماء فيما إذا تنجس الماء بورود المتنجس عليه، وحيث إنّ الماء في المقام لم يحكم بنجاسته عند ورود المتنجس عليه سقط اعتبار الورود فيما نحن فيه فنتمسك بمطلقات الغسل ونحكم بطهارة الثوب واليد. هذا كله بالنسبة إلى مسألة الشك في وجود المادة وعدمها للماء. والحمد لله ربّ العالمين.