بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس (100)
انقسام محل الكلام إلى شقين بالنسبة إلى لحاظ الحالة السابقة للماء
قيل إنّ لهذه المسألة صورتين: الأولى أن نعلم وجود الحالة السابقة للماء وأحرزنا اتصاله السابق بالخزانة أو بالاكرار، كما يتفق ذلك في الانابيب المعمولة في زماننا هذا، ثمّ شككنا في حصول الانقطاع عن المادة، وفي هذه الصورة لا اشكال في جريان الاستصحاب إذ كانت لهذا الماء مادةٌ والآن كما كان فهو متصلٌ بالمادة، ومقتضى صحيحة ابن بزيعٍ الدالة على عدم انفعال الماء الواجد للمادة، هو عدم انفعال هذا الماء فيحرز موضوع الاعتصام، وكذا لا كلام في جريان الاستصحاب فيما إذا علم أنّ الماء مسبوقٌ بالانقطاع عن المادة، كما لو كانت الانابيب فارغةً من الماء ثمّ جرى فيها ماءٌ قليلٌ ولم نعلم أنّه جرى إثر الاتصال بالمادة أو اندفع إثر ضغط الهواء في داخل الانابيب، فنقول: لم يكن لهذا الماء اتصالٌ بالمادة والآن كما كان.
والحاصل انه لا إشكال في الحكم عند احراز الحالة السابقة من جهة الاتصال بالمادة وعدم الاتصال بالمادة؛ إذ يتمّ إحراز الموضوع بالاستصحاب، فنقول في موضوع الاعتصام: كان هذا الماء مسبوقاً بالاتصال بالمادة والآن كما كان، ونقول في موضوع الانفعال: كان الماء قليلاً غير مسبوقٍ بالاتصال بالمادة والآن كما كان فيحرز بالاستصحاب موضوع الانفعال.
إنما الكلام وقع في الصورة الثانية، والظاهر أنّ عبارة السيد(ره) ناظرةٌ إليها، وهي ما إذا لم تحرز حالته السابقة من الاتصال بالمادة والانقطاع عنها، كما لو رأينا بئراً ولم نعلم أنّه حفيرةٌ لاختزان الماء أو بئرٌ حقيقيٌ متصلٌ بالمادة ينبع منها الماء بنحو الرشح أو الفوران، وقد حكم جماعةٌ بانفعال الماء في هذه الصورة، ومنهم السيد(ره). فلماذا حكم فيها بالنجاسة؟ استدل بوجوه عليه:
التمسك بقاعدة المقتضي والمانع في محل الكلام
أحد الوجوه هو التمسك بقاعدة المقتضي والمانع، وقد قرروه كما يلي: إذا احرز المقتضي وهو المؤثر والدخيل في وجود شيءٍ وشكّ في وجود المانع والحائل، فالاصل العقلائي يحكم بعدم الاعتناء باحتمال وجود الحائل، ويحكم العقلاء بوجود المقتضىٰ (بالفتح) وقيل إنّ هذه القاعدة ترجع إلى أساسٍ متينٍ وهو السيرة العقلائية في البناء على وجود المقتضىٰ (بالفتح) وعدم المانع عند الشك في وجود المانع.
لو تمت هذه القاعدة المذكورة لانحلت عقدٌ في كثيرٍ من المواضع كما في باب الوضوء والغسل، مثلاً لو التفت المتوضئ إلى وجود حائلٍ في أحد أعضائه بعد إتمام الوضوء، وغسل الوجه واليدين ولم يعلم أنّ الحائل هل حدث حين الوضوء كي يعدّ مخلاً بصحة وضوئه أو حدث بعد الوضوء؟ والمفروض أنّه كان غافلاً عن الالتفات إلى أعضائه حال العمل، وكذا لو شكّ حين الغسل بوجود مانعٍ في ظهره حيث لم يكن بمقدوره النظر إليه، وكان مضطراً للاستعانة بصديقه في الفحص عنه فهل يجوز له التمسك بقاعدة المقتضي والمانع بدلاً من الاستعانة بصديقه؟
قيل إنّ صبّ الماء يقتضي غسل البشرة ولا يعتنىٰ بوجود الحائل والمانع عن المقتضي ولا يجب الفحص وهذه ثمرةٌ من ثمرات هذه القاعدة لو تمّ مفادها.
قيل إنّ المقام من هذا القبيل ومن صغريات هذه الكبرى؛ لأنّ ملاقاة كلّ شيءٍ للنجاسة وإن لم يكن رطباً أو سائلاً تقتضي انفعاله ونجاسته، والمانع من تنجس ذلك الشيء الطاهر هو كرية الشيء الملاقي؛ لأنّ «الماء إذا بلغ قدر كرٍ لا ينفعل» فهذا الماء قد لاقى النجس قطعاً، وعدم وجود المانع وهو الكرية معلوم، فالمقتضي موجودٌ ولكنّ وجود مانعٍ آخرٍ وهو المادة ليس بمعلوم، وحينئذٍ إذا احتمل وجود المادة المانعة عن الانفعال فالمرجع هو قاعدة المقتضي والمانع عند الشك في وجود المانع فيحكم بوجود المقتضي وهو نجاسة الماء.
عدم وجود الدليل على اثبات قاعدة المقتضي والمانع
لم تحرز الكبرى في قاعدة المقتضي والمانع عندنا؛ إذ لم يثبت لنا وجود سيرةٍ عقلائيةٍ أو دليلٍ شرعيٍ يدلنا على قاعدةٍ معتبرةٍ في مقابل الاستصحاب واصالة العموم، فلم يقم دليلٌ على قاعدةٍ تسمىٰ بقاعدة المقتضي والمانع في مقابل الاصول العملية والاصول اللفظية. فلا وجه للأخذ بقاعدة المقتضي والمانع للحكم بتنجس الماء.
ولو سلّم جريان هذه القاعدة في الماء فإنّ الماء وحده دون سائر الاشياء يقتضي الطهارة والاعتصام وعدم الانفعال؛ إذ «خلق الله الماء طهوراً» والطهور يعني المطهّر وهو مستلزمٌ لطهارة الماء إلا أنّ القلة تمنع من تأثير المقتضي، فعدم وجود المادة مانعٌ عن الطهارة، والطهارة أمرٌ اعتباريٌ وجوديٌ كما هو المفروض. فيمكن توجيه جريان القاعدة في المقام بهذا البيان، وإن أغمض النظر عنه والتزمنا بأنّ الملاقاة تقتضي النجاسة حتى في الماء، والكرية مانعةٌ عنها، أعدنا الكلام وقلنا لا دليل على اعتبار قاعدة المقتضي والمانع، ولا يصح التمسك بها. والحمد لله ربّ العالمين.