بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس (72)
التفصیل في التغیّر التقدیري بین المقتضي والشّرط والمانع عن التغیّر
فصّل البعض في التغیّر التقدیري وقال: إنّ التقدیر تارةً یفرض في جانب المقتضي للتغیّر، کما إذا صبّ علی الماء بولٌ مسلوب اللّون والرائحة، وهذا البول المقتضي لو کان علی صفاته إي لو کان ذا رائحةٍ ولونٍ لتغیّر الماء به. کأنّه یقال: لو کان هذا البول المصبوب علی الماء أزید من کوبٍ لتغیّر الماء به. فالتقدیر هنا مفروضٌ في جانب المقتضي.
واخریٰ یفرض التقدیر في جانب الشرط کما إذا القي مقدارٌ من النجس في الماء حین برودة الجو بحیث لو کانت الملاقاة معه في جوٍّ غیر باردٍ لتغیّر الماء به، والشاهد هو تغیّر الماء المساوي لهذا الماء في الکمّ بملاقاته للنجس المساوي لهذا النجس في الکمّ في جوٍّ غیر بارد.
فالتقدیر هنا مفروضٌ في جانب شرط التغیّر بحیث لو کان الشرط موجوداً ـ کحرارة الجوّ أو ٱعتداله ـ لتغیّر الماء بالنجس.
وثالثةٌ یفرض التقدیر في جانب المانع، کما إذا صبّ مقدارٌ من الصّبغ الأخضر علی الماء الکثیر وٱنصبغ الماء بشيءٍ من الخضرة ثمّ وقع فیه النجس بحیث لم یظهر التغیّر للحس، ولکن لولا ٱنصباب الصّبغ في الماء وٱنصباغه بالخضرة لظهر التغیّر أي لولا المانع لکان التغیّر الحسي قابلاً للرؤیة.
هذا القسم لیس کالقسم الثاني والقسم الأول. إنّ التقدیر في القسم الاول کان في جانب المقتضي، والتقدیر في القسم الثاني کان في جانب شرط التغیّر وفي القسم الثالث یکون التقدیر في جانب المانع عن التغیّر.
قالوا: لا ٱعتبار للتغیّر في صورتي فرض التقدیر في جانب المقتضي وفي جانب شرط التغیّر، والماء محکومٌ بالطهارة فیهما، وقالوا: لا یبعد تنجّس الماء في القسم الثالث وهو فرض التقدیر في جانب المانع عن التغیّر، وقد أشار إلیه صاحب التنقیح(ره) بقوله: إنّ التغیّر حاصلٌ في الماء، غایة الأمر أنّ الصّبغ السابق یمنع عن رؤیة التغیّر، ونظیره ما إذا صبـغ الحوض بصبغٍ أخضر أو أحمر وملئ بالماء بعد جفاف الصّبغ، فالماء یظهر للرؤیة ملوّناً بلونٍ أحمر، ثمّ إذا ألقي علیه مقدارٌ من الدّم، لم یشاهد التغیّر الحاصل من حمرة الدم وحینئذٍ هل یمکن لفقیهٍ أو متفقّهٍ أن یلتزم بطهارة الماء في هذا الفرض بحجة أنّ الحوض منصبغٌ، والماء یری بلونٍ أحمر فلا أثر للدم؛ لأنّ التغیّر لیس فعلیاً؟ کلّا؛ فکما أنّ الفقیه أو المتفقه لا یمکن له الالتزام بطهارة الماء في هذا الفرض کذلك لا یمکن له هذا الالتزام في الماء الذي القي فیه الصبغ أولاً ثمّ وقع النّجس ـ کالدم ـ فیه ولم یظهر لونه.
هکذا قال ولکن لا یتمّ هذا القیاس؛ لأنّا نلتزم بنجاسة الماء في الحوض الذي فرضه حسب بیانه ولکن نحکم بطهارة الماء الملقی فیه الصّبغ أولاً بحیث لولا ٱنصباب الصّبغ لتغیّر الماء بالدّم وظهرت صفرته. لماذا؟ إنّ السّرّ في ذلك هو فعلیة التغیّر في الحوض المصبوغ، والتغیّر الفعلي حسب ما ذکرناه هو التغیّر القابل للادراك الحسّي؛ فلو ٱغترفت غرفةً من ذلك الماء لرأیت لونه متغیّراً، وأما لو ٱغترفت غرفةً من الماء الذي القي فیه الصّبغ ثمّ وقع فیه الدّم لرأیته غیر متغیّرٍ بالدّم کما کان غیر متغیّرٍ قبل إلقاء الدّم فیه، من دون فرقٍ بین حالتیه. نعم، لولا إلقاء الصّبغ فیه لأوجد النجس الصّفرة في الماء. فالتغیّر لیس فعلیاً فیه، والخطاب ظاهرٌ في ٱشتراط التغیّر الفعلي في الماء بحیث یکون قابلاً للإدراك الحسّي کما ذکرنا.
والحاصل أنّ التغیّر حاصلٌ في الصّورة التي فرضها صاحب التنقیح وهي الحوض المصبوغ ولکنّ التغیّر غیر حاصلٍ في الماء الملقی فیه الصّبغ وهو محکومٌ بالطهارة، وظاهر عبارة العروة یقتضي ذلك کما قال: «وأن یکون التغیّر حسّیاً…: فلو کان لون الماء أحمر أو أصفر» ولو بسبب إلقاء الصّبغ فیه «فوقع فیه مقدارٌ من الدّم کان یغیّره لو لم یکن کذلك، لم ینجس». هذا ظاهر عبارة العروة وهو صحیحٌ لا غبار علیه.
حکم النجس الکثیر من دون تغییر الأوصاف الثلاثة للماء
بقیت في المقام مسألةٌ مختصرةٌ لابدّ من بیانها کي یتمّ بها البحث في التغیّر التقدیري وهي ما إذا فرضنا إلقاء النجس في الماء بحیث کان مساویاً لمقدار الماء أو لم یکن مساویاً لمقدار الماء، ولکن کان نجساً کثیراً کما لو صبّ بولٌ کثیرٌ مسلوب الطّعم والرائحة واللّون علی ماء الکرّ من دون ٱستهلاکه فیه. وربما یتوهّم الحکم بطهارة هذا الماء بناءً علی ٱعتبار التغیّر الفعلي، فیقال: هذا الماء طاهرٌ وان کان نصفه ماءً ونصفه بولاً نجس العین، لماذا؟ لأنّ «الماء إذا بلغ قدر کرٍّ لا ینجّسه شيء» وهذا الماء قد بلغ حدّ الکرّ فلا ینجّسه شيء، والمفروض هو عدم تغیّر الماء فیما نحن فیه.
أقول: هذا وهمٌ فاسدٌ ولابدّ من الحکم بالنجاسة هذا الماء؛ لأنّ النجس ٱمتزج بالماء ولا یصدق الماء علیه من حیث المجموع بعد ما ٱختلط البول به، بل نصفه ماءٌ ونصفه بول. فکان هذا السائل ماءً في السابق والآن أصبح بولاً ولا یصدق الماء علیه إذ هو ماءٌ وغیر ماءٍ فعلاً.
إن قیل: یصدق الماء علیه لأنّ البول کان مسلوب الطّعم والرائحة فلا منافاة في البین. قلنا: الماء نجسٌ وإن لم یتغیّر؛ لماذا؟ لأنا نستفید ذلك من صحیحة هشام بن سالمٍ التي مرّ ذکرها: «محمد بن علي بن الحسین بإسناده عن هشام بن سالم» وقد قلنا إنّ سند الروایة صحیح «انه سأل أبا عبدالله (علیه السلام) عن السطح یبال علیه فتصیبه السماء فيکف» أي یتقاطر «فیصیب الثوب فقال: لا بأس به ما أصابه من الماء أکثر منه» أي یغلب الماء علی البول. والمراد من الاکثر هو الغلبة الوجودیة حسب الظهور، والمناط في الغلبة الوجودیة هو التغیّر وعدم التغیّر، ومعنی الغلبة الوجودیة هو مغلوبیة الماء عند تغیّره، وإلّا فهو طاهرٌ إن کان کرّاً. فهذه الروایة تدلّ علی أنّ الماء اکثر من النجس وتقتضي الحکم بالنجاسة إذا لم یکن الماء اکثر من البول، فإذا حکم بنجاسة ماء المطر حین عدم أکثریته، فالحکم في غیر ماء المطر ثابتٌ بطریقٍ أولی؛ لأنّ لماء المطر خصوصیةً وهي عدم تنجّسه مع التغیّر أیضاً. والحاصل أنّ عدم الاکثریة تارةً یتحقق بتغیّر الماء بسبب وقوع النجاسة فیه، واخری یتحقق بغیر ذلك فالماء محکومٌ بالنجاسة فیما إذا أصابت الماء عین النجس، وکانت الغلبة الوجودیة لعین النجس وإن لم یتغیّر الماء بها، ونحن نستثني فرض کثرة النجس ونحکم بنجاسة الماء وإن لم یتغیّر، وهذا الحکم مستفاد من صحیحة هشام بن سالم، ونلتزم به في ماء المطر وغیر ماء المطر. والحمد لله ربّ العالمین.