بسم الله الرحمن الرحیم
الوجه الثاني للاستدلال: التغیّر بالمتنجّس داخلٌ في مورد الأخبار
قالوا في وجه الاستدلال الثاني إنّ المیتة الملقاة في الماء، تغیّر الماء تدریجاً. کیف یکتسب الحوض الکبیر المليء بالماء رائحةً نتنة؟ لم یتغیّر جمیع هذا الماء بواسطة المیتة، بل المیتة تغیّر الماء الذي یحیط بها، والماء المحیط بها یغیّر الجوانب المجاورة ثمّ تلك المجاورات تغیّر المجاورات الملاصقة، وهکذا، فیکتسب کلّ ماء الحوض رائحةً نتنةً بالتدریج، وعلی مرور الزّمن. فلم یتغیّر الماء بالمیتة مباشرة، بل المیتة تغیّر الماء المحیط بها، والمفروض في مانحن فیه أنّ الماء المنزوح من الحوض الاول قد غیّر ماء الحوض الثاني. ولیس مورد الأخبار هو لزوم ٱستناد التغیّر إلى عین النجس، بل هو نفس حصول التغیّر، سواءٌ کان التغیّر بواسطة الماء المحیط بالمیتة، کما هو الحال في ماء الحوض الاول، أو بواسطة ماء الحوض الاول، کما هو الحال في ماء الحوض الثاني فإنّه تغیّر بواسطة ماء الحوض الاول.
الجواب: اتّضح ضعف هذا الوجه أیضاً. فإنّ المیتة تغیّر ما یجاورها إلى أن ینتهي إلى الآخر، وأدلتنا لا تشمل إلّا الماء المتغیّر وإن کان متغیّراً بسبب المیاه المجاورة، ولکن لا یصدق علی هذا الماء الثاني أنّه «وقع الجیفة والمیتة» فیه فلابدّ أن یکون هذا المعنی صادقاً عرفاً، وفي هذا الفرض لا یصدق هذا المعنی، لأننا نزحنا من الماء الأول وصببنا علی الماء الثاني، والماء الثاني لم یلاق المیتة نفسها وهو خارجٌ عن مدلول الأخبار لأنه لم یلاق المیتة مباشرةً وإن کان التغیّر في هذه الصّورة بالدّقة العقلیة کالتغیّر في الماء الاول؛ لأنّ الماء الاوّل قد تغیّر بواسطة الماء، ولکن مدلول الأخبار هو الماء الذي ألقیت فیه المیتة وإن کان سبب تغیّره هو الماء، والمفروض عدم وقوع المیتة في الکرّ الثاني، وان نفرض صورة المسألة کما فرضه المستدل.
إذاً لا تشمله الادلة ولا یتمّ هذا الوجه الثاني کالوجه الاول.
الوجه الثالث: کلام السید الخوئي(ره) في مسألة تغیّر الماء الثاني بالماء الاوّل
وٱستدل في المقام بوجهٍ ثالثٍ کما ذکر في التنقیح، وکأنّه قال: إنّ هذا الوجه (وهو صبّ الماء المتغیّر علی الماء الثاني الذي لم یکن متغیّراً سابقاً) ینحل إلى صورٍ ثلاث، الأولی: أن یصیر الماء الثاني مستهلکاً في الماء الاول فیحکم بنجاسة جمیع الماء إذا تغیّر جمیعه ولم یبق الماء الثاني، بل هو صار عین الماء الاول الذي القیت فیه المیتة، وٱستهلاك الماء الثاني موجبٌ للحکم بنجاسة الجمیع.
وقد یتّفق عکس ذلك (وهذه هي الصّورة الثانیة) إي یستهلك الماء الاول الذي کانت فیه المیتة في الماء الثاني لقلّته بحیث ینعدم الماء الاول فیحکم بطهارة الجمیع لانعدام الماء المتغیّر بواسطة عین النجاسة وخلو الماء الثاني عن المیتة النجسة:
الصورة الثالثة: لا هذا ولا ذاك، إي لا یستهلك أحدهما في الآخر.
قال: مقتضی أدلة الماء المتغیّر بوقوع المیتة فیه هو نجاسة الماء الذي صبّ علیه الماء المتغیّر لأنّهما قد ٱختلطا فیحکم بنجاسة جمیع الماء، ومقتضی دلیل «الماء إذا بلغ قدر کرٍّ لا ینجّسه شيءٌ إلّا إذا تغیّر» ـ ومعنی التّغیّر هو التّغیّر بواسطة وقوع النجس ـ هو طهارة هذا الماء المصبوب علیه الماء المتغیّر إذ لم یقع نجسٌ فیه، ولا یمکن أن یحکم علی الماءین الممتزجین بحکمین، بل لابد إما من الحکم بطهارة الجمیع أو بنجاسة الجمیع فیتساقطان ویرجع إلى قاعدة الطهارة.
قال هذا الکلام في الرّد علی من ٱستدل علی نجاسة الماء الثاني، بیان الاستدلال: «إنّ الماء الاول نجسٌ بلا شبهةٍ واختلاطه بالماء الثاني یوجب نجاسته؛ لانّ الماء الواحد لا یتحمّل الحکمین فإما أن یتنجّس کلّه، وإما أن یکون طاهراً کلّه، ولکن لا یمکن الالتزام بطهارة کلّه، لأنّ مقتضی الادلة هو نجاسة الماء الاول فیتنجّس الماء الثاني أیضاً».
فهو ذکر هذه الفروض الثلاثة للرد علی هذا الاستدلال، وقال: تارةً یستهلك الماء الاول في الماء الثاني، وأخری یستهلك الماء الثاني في الماء الاول، وثالثةً لا ٱستهلاك في البین وکأنّ المرجع في صورة عدم الاستهلاك هو قاعدة الطهارة.
الحکم بالنجاسة في جمیع الفروض الثلاثة في التنقیح
إنّ القول الصحیح في هذه الاقوال المذکورة هو الحکم بنجاسة الماء الاول والماء الثاني من دون فرقٍ بین ٱستهلاك الماء الاول في الثاني وٱستهلاك الثاني في الماء الأول وعدم ٱستهلاك أيٍ منهما في الآخر. إذ لا وجود حقیقةً للاستهلاك بمعنی ٱنعدام الشيء. فلا فرق بین الفروض الثلاثة التي ذکرها السید الخوئي(ره) في التنقیح في الحکم بالنجاسة علیها جمیعاً.
إنّ السید الخوئي(ره) حکم بنجاسة الجمیع فیما إذا ٱستهلك الماء الثاني في الاول وحکم بالطهارة فيما إذا ٱستهلك الماء النجس الاول في الثاني، ورجع إلى الطهارة فیما إذا لم یستهلك أحدهما في الآخر.
أمّا نحن فنحکم بالنجاسة في جمیع هذه الصّور الثلاث عند تغیّر الماء الثاني. فما هو الدلیل علی ذلك؟ لقد ٱستفدنا هذا الحکم من ذیل صحیحة ابن بزیع: قال (علیه السلام): «ماء البئر واسعٌ لا یفسده شيءٌ إلّا إذا تغیّر» ثمّ یقول (علیه السلام): «فینزح حتی یذهب الریح ویطیب طعمه». فالمستفاد من هذه الصحیحة المبارکة هو الحکم بنجاسة ماء البئر ما لم یطيب طعمه ولم تذهب عنه الرائحة الخبیثة ووجوب النزح حتی یطیب طعمه وتذهب رائحته.
سؤال: کیف ینزح ماء البئر إذا أنتن بالمیتة؟ الجواب: اولاً: تخرج المیتة منه عادة، ثمّ ینزح الماء ویخرج الماء من المادة حین النزح «لأنّ للبئر مادة» والریح إنّما یذهب بخروج الماء الجدید من المادة، وهذا الماء الجدید یختلط بالماء النتن ویستهلك فیه نظراً إلى تدریج النزح وتدریج خروج الماء من المادة، والروایة تدل علی نجاسة الجمیع لتغیّر رائحته، وبناءً علی نجاسة الجمیع نتساءل: ما هو السّبب في نجاسة هذه المیاه المتدفّقة؟ الجواب: إنّ الموجب للنجاسة هو الماء المتغیّر وإن لم تکن فیه المیتة؛ لأنّ المیتة أخرجت من البئر أولاً. فکلّ هذه الصّور الثلاث مطروحٌ في صحیحة ابن بزیع، والصحیحة تدل علی نجاسة الماء المتغیّر ما لم یرتفع التغیّر عن ماء البئر. فالماء المتغیّر نجسٌ وإن لم یکن تغیّره الحالي هو التغیّر السابق. فتغیّر الجمیع مستندٌ إلى ٱختلاط الماء الجدید بالماء المتغیّر السابق وإن یضعف التغییر شیئاً فشیئاً.
فهذه الصحیحة المبارکة تدلّ علی عدم الفرق في نجاسة البئر بین أن یکون تغیّر ماء البئر مستنداً إلى المیتة أو مستنداً إلى الماء المتغیّر بالمیتة حسب الفرض.
انفعال الماء بالتغیّر في أحد أوصافه الثلاثة ومعنی التغیّر
المقام الرابع: إذا تغیّر أحد الأوصاف الثلاثة للماء بوقوع النجاسة أو المتنجّس الحامل لأوصاف النجاسة فیه، حکم علی الماء بالنّجاسة من دون فرقٍ بین الجاري وغیر الجاري والمطر وغیر المطر والکرّ والماء الذي له مادة، فجمیع هذه المیاه محکومٌ بالتنجّس بواسطة التغیّر.
أما الکلام في المقام الرابع فیقع في تعیین المراد من التغیّر، فنقول: ما هو المراد من التغیّر؟ إنّ کلمات الفقهاء تقیّد التغیّر بالتغیّر الحسّي، وٱعتبره صاحب العروة(ره) أیضاً. أمّا التغیّر التقدیري فلا یضر أي لا یوجب الحکم بالنجاسة کما لو کان الماء طاهراً وأحمرّ أو ٱصفرّ لونه بوقوع شيءٍ طاهرٍ فیه ولم یخرج عن الاطلاق أو تغیّر لونه بسبب طول المکث في وعائه ثمّ وقع فیه مقدارٌ من الدّم کان یغیّره لو لم یکن کذلك لم یتنجّس الماء ویحکم علیه بالطهارة کما ذکره صاحب العروة(ره).
فالمعتبر في التغیّر هو التغیّر الحسّي؛ بیان ذلك: تارةً یراد بالتغیّر الحسّي ما یقابل التغیّر الواقعي. فقد یتغیّر الماء واقعاً من دون أن یظهر التغیّر للحسّ إلّا بمساعدة الآلات المکبرة والمجاهر الضوئیة فنری بها تغییراً في الاوصاف الثلاثة للماء بعد وقوع النجاسة فیه وتمایزها عمّا کانت قبل وقوع النجاسة، والبحث عن رؤیة الهلال في الأزمنة المتأخرة یماثل البحث الفعلي. فإذا خفي الهلال عن منال العین في أول الشهر وٱستعین بأجهزة الرّصد الحدیثة التي تکبّر الأجرام أضعافاً مضاعفةً لرؤیة الهلال في الأفق وتفترق هذه الرؤیة عن رؤیة الهلال بالعین المجردة. فکما أنّ الهلال یتموضع في مکانٍ لا یتمکّن الحسّ من رؤیته إلّا بمساعدة الآلات کذلك التغیّر في الماء لا یری بالعین المجردة ولابد من آلةٍ تکبّر الشيء أضعافاً مضاعفةً لمشاهدة تغیّر الماء بالنجاسة فیما نحن فیه. فالمعتبر هو التغیّر الحسّي في مقابل التغیّر الواقعي. فالتغیّر الواقعي هو تغیّرٌ حقیقة، ولکن لا یظهر ذلك للحسّ إلّا بمساعدة الآلة المکبّرة. فإن کان المراد من التغیّر الحسّي هو هذا التغیّر الظاهر للحس فلا شكّ في ٱعتباره وعدم ٱعتبار التغیّر الواقعي المدرك بالآلة کما لا عبرة بالاستهلال بالعین المسلّحة ورؤیة الهلال بالآلة المکبّرة حین کون الهلال غیر قابلٍ للرؤیة بالعین المجردة. والحمد لله ربّ العالمین.