بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس (108)
اشتراط دوام النبع في المادة والوجوه المحتملة له
مسألة 4: «يعتبر في المادة الدوام، فلو اجتمع الماء من المطر أو غيره تحت الارض، ويترشح إذا حفرت لا يلحقه حكم الجاري».
ذكر السيد في المسألة الرابعة شرطاً آخر في المادة وهو دوام المادة حيث قال(ره): «يعتبر في المادة الدوام» وفرّع على الشرط بقوله: «فلو اجتمع الماء من المطر أو غيره تحت الارض ويترشح إذا حفرت لا يلحقه حكم الجاري».
سنلقي الضوء على ما أفاده في الابتداء فيتبين منه التفريع أيضاً.
عدم اعتبار الكرية في اعتصام الماء الجاري من وجهة نظر الشهيد الاول(ره)
ننقل في المقام كلام الشهيد(ره) في الدروس[1]. التزم الشهيد في الدروس بأنّه «لا يعتبر في اعتصام الماء الجاري الكرية على الأصح» وقد مرّ أنّ الماء القليل الواجد للمادة معتصم. ثمّ قال(ره): «نعم، يشترط في المادة دوام النبع» وقد حكيت عن ابن فهدٍ موافقته على ما ذهب إليه الشهيد، وعن التنقيح استحسانه وأنّ عليه الفتوى.
الوجوه المحتملة في كلام الشهيد الاول من وجهة نظر صاحب الجواهر(ره)
قال في الجواهر: «وليته اتضح لنا ما يريد بهذه العبارة فضلاً عن الصحة» فلا يعلم مراده «فإنها تحتمل وجوهاً»: منها أن لا تكون المادة مما ينبع منها الماء في بعض الفصول دون البعض الآخر، بل تكون نابعةً في جميع الفصول بنحو الرشح أو الفوران.
كلام المرحوم الكركي حول كلام الشهيد الاول
قال المحقق الكركي(ره)[2]: «إنّ اكثر المتأخرين عن الشهيد(ره) فمن لا تحصيل لهم فهموا هذا المعنى من كلامه» وقالوا إنّ مراد الشهيد هو عدم الانقطاع في جميع الفصول.
هذا هو الاحتمال الاول.
الثاني: أنّ المادة ربما تكون ضعيفة، كما يتفق ذلك في المادة الرشحية عادة، فلضعفها يخرج الماء منها تارةً ويقف اخرىٰ، حيث يجفّ البئر لفترةٍ من الزمن كساعةٍ أو أربع ساعاتٍ أو يومٍ أو يومين، وبتعبيرٍ آخر إنّ فترة الوقوف بين النبعين فترةٌ معتدٌ بها زماناً ولا يخرج ماءٌ من المادة فيها.
الثالث: أن يكون مراد الشهيد من دوام النبع هو عدم انسداد المادة، أي أن لا يحول حائلٌ بين المادة والماء، كسقوط التراب من أطرافها مثلاً، فاحترز الشهيد باشتراط دوام النبع عن المادة التي يقف نبعها لانسدادها وانقطاع لحوقها بالماء، فإن كان هذا مراده فهو شرط الاتصال الذي قلنا باعتباره، أي اشتراط اتصال الماء بنفس المادة إن كانت المادة مادةً رشحية، بحيث تلحق قطرات المادة بالماء، وتصبح جزءاً من الماء. فإن كان مراد الشهيد من الدوام الاتصال بالمادة فإنه ليس شرطاً آخر.
الرابع: أنّ الآبار الواجدة للمادة الرشحية إذا بلغت حداً معيناً لم يخرج من مادتها الماء إلّا إذا نزح ونقص الماء، فيكون المراد من دوام النبع هو خروج الماء بنحو الفوران أو الرشح من دون وقوف.
لو كان المراد هو الاخير، فالدوام بذلك المعنى غير معتبر؛ لأنّ العمدة في المقام هي صحيحة محمد بن بزيعٍ والتعليل الوارد فيه حيث قال (عليه السلام): «فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه» فالمفروض هو خروج الماء حين النزح، ولم يفرض فيها دوام النبع على الاطلاق حتى في حين عدم النزح وقد أشرنا إلى أنّ اغلب الآبار أو كثيراً منها رشحية، فلا يترشح شيءٌ من المادة بعد بلوغ الماء إلى حدٍ معين، فلا عبرة بهذا المعنى الاخير وقد علل الامام (عليه السلام) اعتصام البئر بأنّ «له مادة» مع أنّ الماء لا يخرج من المادة دائماً، بل يقف الماء عن النبع إلى أن ينزح منه وينقص الماء. هذا هو المتعارف في الآبار.
اما الاحتمال الثالث وهو الانسداد بسقوط التراب ونحوه، فليس اعتبار الدوام بهذا المعنى إلّا اعتبار اتصال الماء بالمادة كما مرّ ذكره، ولكنه ليس شرطاً آخر في مقابل اتصال الماء بالمادة، بل هو نفس اشتراط الاتصال.
واما الثاني وهو ضعف المادة، كما لو خرج الماء من المادة كلّ يومين مرّة، بأن جفّ البئر بعد نزح الماء منه يوماً، ثم خرج الماء من المادة في اليوم التالي، فالماء معتصمٌ في اليوم الذي يخرج الماء من المادة؛ لأنّه متصلٌ بالمادة وغير معتصمٍ في اليوم الذي لا يخرج الماء منها؛ لأنّ الماء غير متصلٍ بها، وصحيحة ابن بزيعٍ لا تشمل فرض نزح الماء وعدم خروج الماء من المادة؛ إذ المادة هي ما يخرج الماء منها بعد استخراجه من البئر؛ ولذلك تشمل الصحيحة المادة يوم نبعها، وبعبارةٍ اخرى إذا كان النبع في زمانٍ معتدٍ به، بحيث نبعت المادة بعد نزح الماء، وسدّ النابع مسدّ المنزوح لم يبعد شمول الصحيحة لهذا الوجه؛ لأنّ للبئر مادةً في تلك الفترة، اللّهم إلّا أن يقال إنّ هذا القسم من المادة خارجٌ عن مدلول صحيحة محمد بن بزيع؛ إذ التعليل الوارد في الصحيحة وهو قوله (عليه السلام): «لأنّ له مادة» ظاهرٌ في المادة التي يخرج منها الماء متى ما نزح الماء من البئر. لكنّ هذا الكلام ليس في محله؛ لأنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي صدق التعليل في الصحيحة على المادة في اليوم الذي يخرج الماء منها، اللهم إلّا أن يدعى انصراف الصحيحة ـ التي هي عمدة الدليل لنا ـ عن هذه الصورة.
وأما الاحتمال الاول وهو نبع الماء بالاستمرار في جميع الفصول فلا يساعده الدليل؛ لأنّ ثمةً آباراً تجف في الخريف وتنبع في الربيع بنحو الفوران أو الرشح، ويصدق عنوان البئر عليها من دون اشكال، والمفروض في صحيحة محمد بن بزيع هو وجود المادة لا استمرار النبع في جميع الفصول، ولا يبعد شمول الصحيحة لنبع الماء كلّ يومين مرةً كما مرّ. هذه وجوهٌ احتملها صاحب الجواهر(ره).
إذن ما هو مراد صاحب العروة من دوام النبع؟
والحمد لله ربّ العالمين.
[1]– قد نقل المرحوم الميرزا مضمون ما ورد في الدروس الشرعية وعبارة الدروس كما يلي: ….
[2]– لم نعثر عليه في كتبه الموجودة والمتوفرة لدينا حسب تتبعنا الناقص. نعم قد نقل هذا الكلام عن المرحوم المحقق في بعض الكتب كمعالم الدين وذخيرة المعاد ومشارق الشموس والمستمسك والتنقيح. والعبارة المنقولة التالية هي عبارة «معالم الدين» حيث كان مؤلفه أقرب المؤلفين إلى المحقق زمانا…