اشتراط دوام النبع (ج 107)

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (107)

اشتراط اتصال المادة بالماء في الحكم باعتصامه

مسألة 3: «يعتبر في عدم تنجس الجاري اتصاله بالمادة فلو كانت المادة من فوقٍ تترشح وتتقاطر، فإن كان دون الكر ينجس، نعم إذا لاقىٰ محل الرشح للنجاسة لا ينجس».

ذهب السيّد إلى أنه يعتبر في اعتصام الجاري اتصاله بالمادة وعدم انقطاعه عنها، ثمّ فرّع على ذلك بقوله: «فلو كانت المادة من فوق» كما لو حفر بئرٌ وزيد في تعميقه، ولم تكن له مادةٌ تحته، بل كانت مادته فوقه «تترشح وتتقاطر» عليه «فإن كان» الماء المجتمع في هذه الحفيرة «دون الكر ينجس».

ما هو الدليل على ذلك؟

إذا كان النابع من المادة الفوقية بنحو الصبّ بحيث صبّ الماء منها وجرى وسال إلى الاسفل (لفوران الماء منها) حصل الاتصال ولا كلام في اعتصامه؛ لأنّ المادة الفوقانية مادةٌ فورانية، وقد استفدناه من الاخبار الواردة في ماء الحمام، حيث يعتصم ماء الحياض الصغار بفتح الصمام واتصاله بماء الخزانة التي قد تعلو الحياض الصغار ويصبّ الماء منها إليها، ولا فرق لدى العرف بين المادة الفورانية من الفوق والمادة الفورانية من التحت؛ وذلك لحصول الصبّ والانصباب في الجريان من الفوق إلى التحت. فلا اشكال في هذه الصورة.

انما الكلام في ترشح المادة الفوقانية والتقاطر منها على الماء المجتمع في الاسفل، فإن كان الماء الاسفل دون الكر انفعل بملاقاته للنجس، سواءٌ تقاطر عليه شيءٌ من الرشحات حين الملاقاة أو لم يتقاطر، فلا فرق بين هاتين الصورتين في الحكم بنجاسة الماء الملاقي.

وبعبارةٍ واضحةٍ: نحن لا نميل إلى القول بأنّ تساوي مادة الماء مع سطح الماء في المادة الفورانية معتبر، ولكن نشترط في المادة الرشحية اتصال الماء بالمادة الرشحية، فننكر اعتصام الماء الذي تترشح وتتقاطر عليه المادة الفوقانية، وليس الوجه في ذلك ما قد يقال بأنه ماءٌ قليلٌ لا يجدي أثراً، وأنه لا فرق في المرتكز لدى العرف بين تقاطر المادة الرشحية عليه وعدم تقاطرها، إذ لا يتم هذا الوجه، فمن الممكن الالتزام بوجود الفرق في المرتكز العرفي، فإنّ الماء الواجد للمادة التي تتقاطر عليه يفترق عن غيره بالارتكاز، كما هو الحال في ماء المطر؛ لأنّ الماء القليل المجتمع على وجه الارض حال تقاطر المطر عليه معتصمٌ فلا ينفعل، فيمكن أن يكون القليل المتقاطر عليه من المادة كالقليل المتساقط عليه من ماء المطر. فأي فرقٍ بين ماء البئر الذي يجتمع في جوفه وتتقاطر عليه المادة الفوقانية الرشحية، وبين ماء المطر القليل الذي يجتمع على وجه الارض ويتقاطر عليه من السماء؟ فإذا قلتم باعتصام ذلك فقولوا باعتصام هذا في المقام أيضاً.

ثمّ ما هو الاشكال في عدم الفرق؟

ولذلك لا يمكن قياس هذا الماء المتقاطر عليه من المادة الرشحية الفوقانية بالماء المصبوب في اناءٍ وضعت فيه يدٌ قذرةٌ. لكن لا يتم هذا الكلام، وباب النقاش فيه مفتوح.

عدم شمول صحيحة ابن بزيعٍ للمادة الرشحية

إنّ العمدة في المقام هي الدليل على اعتصام الماء عند اتصاله بالمادة وإن كانت رشحيةً وما هو إلّا صحيحة ابن بزيع: «ماء البئر واسعٌ لا يفسده شيءٌ إلا أن يتغير ريحه أو طعمه، فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأنّ له مادة».

هذه الصحيحة هي العمدة في المقام، وهي لا تشمل المادة الرشحية ‌الفوقانية التي تتقاطر على الماء القليل؛ لأنّ هذا النحو من المادة لم يكن له تحققٌ في البئر؛ إذ مع وجود المادة الرشحية من فوقٍ لا داعي لحفر البئر إلى الأسفل، والمادة الرشحية التحتانية في البئر الواجد لها تكون بمستوىً مساوٍ لسطح ماء البئر وقد تكون أسفل منه، فالمرتكز في الاذهان، والمتعارف في الخارج ـ وربما وجد لحد الآن ـ هو عدم الحاجة إلى حفر البئر حتى الأسفل مع وجود مادةٍ رشحيةٍ فوقانية، فالغرض من حفر البئر إلى الاسفل هو اجتماع الماء من المادة الموجودة حوله أو في جوانبه أو نبع الماء من المادة الفورانية التي قد تكون أسفل من ماء البئر وانصبابه في البئر، والحاصل أنّ المتعارف في المادة الرشحية هو تساويها مع ماء البئر.

فصحيحة ابن بزيعٍ هي العمدة في المقام، وهي لا تشمل المادة الرشحية الفوقانية، فلا يمكن الحكم باعتصام الماء المتقاطر عليه هذا النوع من المادة، بل يدخل في أدلة الماء القليل: «الماء إذا لم يكن كراً ينفعل» إذ لا دليل على خروجه من تلك الادلة، والمقدار المعلوم خروجه منها هو الواجد للمادة الفورانية أو الرشحية المساوية.

نعم، قال في ذيل كلامه: «نعم إذا لا قىٰ محل الرشح للنجاسة لا ينجس».

ذكرنا أنّ ذلك الماء ليس بمعتصم، سواءٌ كانت ملاقاته للنجس مع التقاطر أو في الفترة المتخللة بين التقاطر أي من دون التقاطر، فكلتا الصورتين خارجةٌ عن مدلول صحيحة محمد بن بزيع. نعم، إذا لاقت القطرات في محل الرشح النجاسة لا تنفعل؛ لأنّها متصلةٌ بالمادة ومترشحةٌ منها، فمحل الرشح معتصمٌ ولا ينفعل بالملاقاة إذ لو كانت المادة موجودةً تحت الماء لكانت معتصمة، والأمر كذلك حينما تكون المادة فوق الماء. فظهر من هذه المسألة أنّه «يعتبر في عدم تنجس الجاري اتصاله بالمادة» إذ يتحد الماء والمادة بالصبّ إذا كانت المادة فورانيةً، وأما «لو كانت المادة تترشح من فوقٍ وتتقاطر، فإن كان دون الكر ينجس. نعم، إذا لاقى محل الرشح للنجاسة لا ينجس» فهو معتصمٌ كما ذكرنا؛ لأنّ المستفاد من الصحيحة أنّ المادة في نفسها ـ بلا فرقٍ بين كون نبعها بنحو الفوران أو الرشح ـ معتصمة. والحمد لله ربّ العالمين.