بسم الله الرحمن الرحيم
البحث التاسع عشر
دلیل القائلین بجواز التطهیر بغیر الماء المطلق
الكلام في أدلة القائلین بمطهریة غیر الماء كالمفید والسید المرتضی(رحمهما الله) اللّذین ذهبا إلی أنّ غیر الماء أیضاً یزیل الخبث. فما الدلیل علی قولهم؟ ما یبدو من كلماتهم ربّما هو التمسك بإطلاقات الغسل الدالة علی أنّ غیر الماء أیضاً مطهرٌ من الخبث، كالسؤال عن اصابة القذر كالبول أو المني أو شيءٍ آخر بالثوب أو البدن وأمر الامام (علیه السلام) بالغسل؛ «اغسله»[1] وفي بعض الروایات الأمر بالغسل مرتین «اغسله مرتین»[2] كما في اصابة البول، فدلیلهم هو التمسك بإطلاقات «اغسل». قالوا: الغسل یصدق علی الغسل بالماء والغسل باللبن والمخیض، وكذلك یصدق علی الغسل بالقسم الاول[3] من ماء الورد.
أما التقیید بالماء في الروایات كقوله (علیه السلام): «اغسله بالماء ثلاث مراتٍ» أو «إذا وجد الماء اغسله» فهو للغلبة حسب كلامهم. لأنّ الماء متوفرٌ عند الناس، وهم یغسلون الشيء المتنجس بالماء غالباً، فالقید قیدٌ غالبي وقد قرّر في علم الاصول بأنّ المطلق لا یقیّد بالقید الغالبي، فیبقی الاطلاق علی حاله. فما هو الفرق بین المقیّد الذي یكون قیده غالبیاً والمقیّد الذي لیس كذلك؟ فالاول لا یقیّد المطلق بخلاف الثاني.
لا یقالّ إنّ المطلق منصرفٌ ولا یشمل الفرد النادر، بل یشمل الفرد الشایع ـ كما یتوهم ذلك ـ لأنّا نقول هناك أمران: أحدهما عدم صحة حمل المطلق علی الفرد النادر في باب المطلق والمقید. مثلاً إذا ورد خطابٌ: كاعتق رقبة، وأرید به عبدٌ ذو رأسین، فهو مستهجنٌ لقبح اختصاص المطلق بالفرد النادر.
ثانیهما: عدم الاشكال في شمول المطلق للفرد الغالب والفرد النادر كما في «أكرم العالم» فإطلاق العالم یشمل العالم القصیر أیضاً، بلا اشكالٍ أي لا مانع من شمول المطلق للفرد النادر وغیر النادر ولا محذور فیما نحن فیه إذا یشمل المطلق ـ وهو الغسل ـ الفرد الغالب والفرد النادر أي یشمل الماء المطلق والماء المضاف.
زبدة الكلام هي أنّ الروایات الدالة علی الغسل مرتین أو الغسل مرةً واحدةً، هي مطلقاتٌ تشمل الغسل بالماء والغسل بغیر الماء الذي هو الفرد النادر، والروایات المذكورة فیها لفظة الماء محمولةٌ علی الفرد الغالب. «اغسله بالماء»[4] أي اغسله بالفرد الغالب، والفرد الغالب لا یصلح لتقیید الاطلاقات.
والحاصل أنهم ذهبوا إلی أنّ غیر الماء مطهّرٌ أیضاً لأنّ الغسل لا ینحصر بالماء عندهم.
كون انحصار المطهریة بالماء في الروایات مفروغا عنه:
ونجیب عن هذة الدعویٰ بأنّا إذا تتبعنا الروایات نجد أنّ مطهریة الماء مسلماً بها عند السائل، والسائل یعلم بأنّ الماء مطهرٌ، وانما یسأل عن كیفیة تطهیر الکوز أو الثوب، وعن وظیفته عند فقد الماء أو یسأل عن تكرر الغسل وصبّ الماء وكفایة المرة أو التكرار، والسبب في عدم ذكر الماء في بعض الروایات واطلاق الغسل فیها هو كون الغسل بالماء مفروغاً عنه.
فأولاً: لا یتم أصل هذا الاطلاق؛ لعدم الحاجة إلی التقیید وكون القید معلوماً ومرتكزاً فلم یذكر الماء، وإن لم یقتنع احدٌ بهذا الجواب، فنقول: هناك روایاتٌ لا یكون القید فیها قیداً غالبیاً ولا یمكن القول بانّها لا تقیّد المطلق كما في صحیحة: صفوان[5] «محمد بن علي بن الحسین بإسناده عن صفوان بن یحیی» لا تنسوا بأنّ سند الصدوق عن صفوانٍ سندٌ صحیحٌ والسند الموجز المفید هو «عن أبیه، عن علي بن ابراهیم» وهو صاحب التفسیر «عن أبیه» علي بن ابراهیم ینقل عن أبیه والرازي عن صفوان هو أبو علي بن ابراهیم. الروایة صحیحة من حیث السند. «انه كتب الی أبي الحسن (علیه السلام) یسأله عن الرجل معه ثوبان فأصاب أحدهما بولٌ، ولم یدر أیّهما هو وحضرت الصلاة وخاف فوتها ولیس عنده ماءٌ كیف یصنع؟»
هنا في فرض السؤال یحتمل وجود اللبن أو المخیض عند السائل وله ثوبان أحدهما نجسٌ والآخر طاهر، ولا یدري أیّهما هو، فلو كان التطهیر بغیر الماء جائزٌ لبیّنه الامام (علیه السلام) بقوله «هل عنده لبنٌ أم لا؟» ولكن قال الامام (علیه السلام): «یصلي فیهما جمیعاً» أي یكرر الصلاة لتقع في ثوبٍ طاهرٍ لا محالة فلا یمكن حمل الروایة علی الفرد الغالب، والقول بأنّ الفرد الغالب لا یقیّد المطلق لأنّ القید هنا لیس قیداً غالبیاً لاحتمال وجود اللبن عند السائل، لا سیّما في السفر والرحلة، وفي فرض السؤال یوجد اللّبن أحیاناً إن لم یوجد غالباً كما هو الحال في العشائر العربیة والقوافل الراحلة إلی مكة وغیرها، فإنهم یحملون اللبن للترویة، فعلی الامام (علیه السلام) السؤال عنه.
وهذه الروایة: «ولا یجزي من البول إلّا الماء» لا یمكن حملها أیضاً علی الفرد الغالب ثمّ القول بأنّ الفرد الغالب لا یقیّد المطلق؛ لأنّ القید هنا لیس قیداً غالبیاً والمسافر یحمل اللبن في السفر لیرتوي به عند فقد الماء فقول الامام (علیه السلام) واضحٌ في الحصر.
فأبطلنا المدعیٰ بجوابین: الجواب الأول هو عدم وجود اطلاقٍ في أصل مطلقات الغسل، والقید بین السائلین والمجیبین یكون مفروغاً عنه ومسلّماً به.
الجواب الثاني هو فرض كون القید غالبیاً ومنع التمسك بهذه المطلقات في الروایات (كقوله (علیه السلام) اغسل أو اغسل مرتین) أي لا یمكن التمسك بها وإن كان القید غالبیاً لوجود روایاتٍ لا یمكن أن یكون الماء فیها قیداً غالبیاً، وحینئذٍ یقیّد الاطلاق بلا كلامٍ إن وجد الاطلاق فیها.
[1]. هكذا في روایات منها: تعلیقات ص 37.
[2]. و عنه عن فضالة عن حمّاد بن عثمان عن ابن أبي يعفورٍ قال: سألت أبا عبد اللّه ع عن البول- يصيب الثّوب قال اغسله مرّتين؛ شيخ حر عاملی ،وسائل الشيعة،(قم، موسسة آل البيت(ع)، چ1، ت1409ق)، ج3، ص395.
[3]. وهو عصر ماء الورد.
[4]. ماورد فی الروایات هو مضمون «اغسل بالماء»… ص 38.
[5] . الشیخ حر العاملي، وسائل الشیعة (قم، موسسه آل البیت (عليهم السلام)، ط 1، ت 1409 ق)، ج 3، 505.